"فسطاط" رانيا

أحمد عمر

السبت 2018/12/15
نهض أحد الأصدقاء الميامين محتجاً، وقال: على رسلك، الفستان شأن نافل وتافه، ونحن نتداول شؤون الأمة الكبيرة، من تدمير، وتحرير، وعسكر، وحرية.

فقلت: إن فستان رانيا، هو أهم من شؤون الوطن كلها، وعندي البرهان والآية، فقد كانت أول جريمة على وجه هذه البسيطة، حول خاتم أنثى وورقة توتها، فالمرأة هي محور صراعات البشر منذ الجريمة الأولى.

وذكرت لأصحابي أن القارئ صدم عندما قرأ للمفكر المصري القدير عبد الوهاب المسيري، صاحب "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية"، وهي واحدة من أجمل الموسوعات وأثقلها وأغربها، و قد أجاب المسيري مفسراً الصدمة، قائلاً: عندي رؤية ومنهج يطبقان على كافة المجالات، وكتابتي عن الفيديو كليب كانت تطبيقاً لرؤيتي ومنهجي، وأفلام مثل "خلي بالك من زوزو" صارت ثقافة شعبية، تؤثر في الناس بشكل يفوق الكتابات النظرية والمنهجية، ونفى أن يكون انحاز لنانسي عجرم على حساب روبي، و ذكر أنهما تحولتا إلى سلعتين جنسيتين، وتوصل إلى أن المتلقي يشعر بوخز في الضمير عندما يشاهد فلماً إباحياً، وتم تصعيد الجرعة الجنسية في حالة روبي التي قادت تلك الدراجة المهلكة، ما أذعر المشاهد، لكن مخرجة كليبات نانسي عجرم أدركت ذلك  فغلفت كليباتها بالطفولة والبراءة، فعندما يضبط المشاهد وهو يحدق في ساقيها الجميلتين يبرر الأمر لنفسه بأنها فلاحة تغسل الملابس. وقد فاز طشت الغسيل على الدراجة، وربما قيس الأمر نفسه على فستان رانيا، وهي تؤدي أحياناً مشاهد " جريئة لم تقدم عليها ذات الهمة، لكنها شخصية في فيلم، كأننا نجيز ذلك، في حين أنها ظهرت بذلك الفستان في مهرجان، في شخصيتها الحقيقية، أمام مصر والعالم.

وكان بعض زملائنا في غفلة عن حرب الفستان الذي سقط عن السطر، وأثار النقع وغبار فوق الرؤوس، فتابعته الملايين، وتقدم ضد رانيا وفستانها الشفاف، محام مصري بدعوى الفعل العلني الفاضح والإساءة للمرأة المصرية. رانيا ابنة ضابط مصري ومضيفة جوية، شاركت في مسابقة ملكة جمال مصر، ونالت منزلة الوصيفة الأولى، وشاركت في أفلام ومسلسلات عديدة لكن الفستان جعلها نجمة وبطلة ورائدة فضاء مثل فالنتينا تيريشكوفا!

وتذكرت لهم قول الشاعر النابغة وأنشدته: سَقَطَ النّصيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَهُ/ فتناولتهُ واتقتنا باليدِ.

وقلت: إن المتجردة سترت نفسها بعد سقوط النصيف، واتقت الشاعر النابغة، الذي هجم عليها يريد الغنيمة الكبرى، في حين أن رانيا أرادت إسقاطه من غير طشت غسيل، وقد رأيت في فيديو القناة السعودية التي اسمها MBC مصر، في لقاء مع طشت الغسيل عمرو أديب، وتحت الفيديو عشرات الألاف من التعليقات تكذّبها، وزعمتْ، إنه كان ببطانة لكنها سقطت سهواً، وإن الكاميرا لها بالمرصاد، والمهرجان مكان كاميرات متربصة بالنجوم، وقليل من التعليقات كان يدافع عنها، وهذا من طبائع الأمور.

خرجت الدولة المصرية التي اعتقلت مئات الناشطات، من مختلف التيارات، ولنتذكر آمال فتحي، تدافع عن فسطاط رانيا وعن فسطاط العسكر، فالفنانات بفستان من غير بطانة إحدى أدوات الحكم العسكري، ولما كان صعباً على الأزهر أن يقوم بهذه المهمة الشاقة، تطوّع بابا الكنيسة القبطية مضحياً بقيم الإنجيل للدفاع عنها، كأنه يحتل مكانة المفتي، وقد منحها عمرو أديب فرصة لم ينلها محمد مرسي الذي أسقطت عنه الشرعية، ولا محمد البلتاجي، ولا الكتاتني، ولا ستين ألف معتقل بريء. ولا برهان على كذبها سوى الكذب، وقيل إنها اعتذرت، فتراجع المحامي الذي رفع دعوى الاعتداء على الأخلاق الحميدة، لأنها تبدو سعيدة بالفستان، وكان عمرو يهزُّ رأسه مصدقاً، ألم يقل رئيس رانيا، عن جريمة الخاشقجي: "انتوا ليه ما تصدقوا الناس"، يقصد ولي العهد السعودي، الذي نفى قتل الخاشقجي.  قرأت أنها تلقت عرضاً بتصوير فيلم أجنبي من بطولتها بفضل البطانة الساقطة.

وكذبها سافر وشفاف مثل فستانها، من عدة وجوه، الوجه الأول: أنها حاولت الاختباء وراء أبنتيها لتزكية الفستان بقولها إنه أعجبهما، والثاني أنه بيع من محل عربي، فالفستان مثل القدس: عربي عربي عربي، والثالث أنها زعمت أنه لُبس من أجل السجادة الحمراء المقدسة، وليست السجادة الحمراء كالصفراء، فالسجادة الحمراء يجوز عليها ما لا يجوز على غيرها، ودخل تواضرس في حرب الفستان بثقل الكنسية التي يملكها حصرياً، وأفتى قائلاً: هي حرية شخصية.

وليت تواضرس دافع عن حرية الرأس كما دافع عن حرية القافية غير الشعرية، وعن الرأي الشخصي كما دافع عن حرية الزي الشخصي من غير بطانة، فالإنجيل يحضُّ على الستر، وعلى مكارم الأخلاق، ذلك حتى تبيح لنفسها إسقاط النصيف، لأنها تحب الشهرة ولفت الأنظار وليِّ الأعناق "وطقّها" وإثارة الغرائز التحتية، وقد لعب عمرو أديب دور مبيّض النحاس، وليس كل ما يلمع ذهباً، لكن الفستان طار بها إلى سماء الشهرة الصناعية لأنه من غير بطانة. وقد انتفعت الدولة من الرماد فذرت الفستان في العيون، فتحول إلى حديث الساعة، وسرقت الأنظار عن بطلة الساعة وهي البطاطس.

هنا نهض صديقي الشاب نوري، وقلب لي ظهر المجن وقال:

أترضى أن يكون شرفك تحت الزنار.

قلت: ليست القصة رضا أو قبولاً، فمن حكمة الله في خلقه أنه خلق الأنسان من أدنى شيء وهو الطين، حتى لا يتكبر، وإنه خلقه من ماء مهين، وجمع الشرف والشهوة في سبيل واحد، وآلة واحدة، وتسمى هذه الالة في السرد الغربي "العضو الحميم"، وهي آلة الذرية والنسل والشهوة وآلة الاطراح. وقلت: الشرف أوسع معنى، وكان الشرف في الدين، وقد سلبه المفتي، وفي الوطن، وقد سلبه الرئيس، ولم يبق لنا إلا شرف ما تحت الزنار.

وقلت: حسناً سأجادلك يانوري أفندي، هل سترضى أن يكون شرفك في علم الدولة الملون الذي تُنتهك به الحرمات، أم في صورة الرئيس المفدى المجرم، أم خريطة الوطن المعطاء المليء بالسجون الكريمة بالدماء.

 اقترح صديقنا أبو الفوارس تصويتاً على "فسطاط" رانيا، فصوتت الأكثرية مع فسطاطها، عزّاباً ومتزوجين، فقد أعجبهم سقوط النصيف، وعاد صديقي نوري إلى النكاية، فقال: أستحلفك بالله يا خال، ألم تقرِّب صورة الفستان وتكبرها.

قلت: أتريد الحق أم بنت عمه؟

فقال: أريد بنت عم الحق وهي لابسة الفستان من غير بطانة.

دخل زميل آخر وقال مازحاً وغامزاً بعينه اليسرى: مؤكد أن الخال قرب الصورة للبحث عن ماركة الفستان؟

وقال ثان: قرب صورة الفستان للبحث عن خريطة الكنز المفقود.

فصفق الجميع، وضحكنا في أمسية "هلا بالخميس"، ليلة السبت، التي نجتمع فيها فالسبت هو خميس الفرنجة. نتنادم ونروي الطرائف ونتناول شؤون السياسة والجنس والدين في أسبوع، ونضرب ظهور الأخماس وأبشار الأسداس، ثم نختمها بحفلة شواء مع شاي على الفحم.

وصوّت الجميع لفسطاط رانيا، قال صديقنا أبو الفوارس مقتنعاً برأيي: هذا الفستان وما تحته أهم من الوطن، وحوله ندندن. ونحن محاصرون، الفستان من أمامنا، والعدو من خلفنا.

وأنشد قول المتنبي: وَسِوى الرّومِ خَلفَ ظَهرِكَ رُومٌ/ فَعَلَى أيّ جَانِبَيْكَ تَمِيلُ.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024