دولة بلا مؤسسات

مهند الحاج علي

الإثنين 2019/07/15

ليس في لبنان تصريح أو حدث أبرز هذا الأسبوع من كلام وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل عن المخاطر المحدقة بالإقتصاد اللبناني . كانت لحظة صراحة نادرة من مسؤول يُمسك بالعديد من الملفات السياسية والخدماتية، وعلى رأسها مجموعة تفاهمات ترسو عليها الحكومة الحالية.

"خوفنا لم يعد على لبنان من العدو الاسرائيلي"، قال باسيل (رغم أن حليفه الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله كان قدم قبله بيوم أطروحة بالخرائط والأهداف عن ردع اسرائيل واحتمال إعادتها للعصر الحجري). باسيل يخاف على لبنان "من فقدان استقلاله المالي". لم يكتف في تصريحه بذكر التهديد مرة، بل كرره ثانية بالتحذير "من وضع اليد علينا مالياً". وفي المرة الثالثة والأخيرة التي حذر فيها باسيل اللبنانيين، ذكر أن الخطر الحقيقي على الوطن والمجتمع هو من التحلل المالي والاقتصادي، واتهم خصومه "بشعبوية وقلة مسؤولية وعدم مصارحة شعبنا بالحقائق المالية والاقتصادية".

إذاً، هناك من لا يُصارحنا بالحقائق المالية، أو بكلام آخر، ليس الحديث المتواصل عن الأمان الاقتصادي والإيمان بالبلاد، دقيقاً. بل أكثر من ذلك. لبنان على وشك خسارة قراره الاقتصادي والمالي، و"وضع اليد عليه"، نتيجة خطر وشيك على هذا الصعيد. 

بالفعل هناك قلق على مصير لبنان، في الأوساط الدبلوماسية الأوروبية قبل المحلية، تحديداً لأن الأوروبيين لا يريدون بؤرة قلق جديدة على مقربة من شواطئهم. وأيضاً لأن هناك قلقاً حيال الإدارة المحلية للوضع المالي، من كل الجوانب، بدءاً بالتصريحات غير المسؤولة. في كانون الثاني (يناير) الماضي، سبب تصريح لوزير المال علي حسن خليل عن اعادة جدولة الدين، هلعاً في الأسواق المالية، انعكس سلباً على مالية البلاد. بالتأكيد لم يستشر الوزير أحداً من فريقه المختص أو كوادر الوزارة التي يديرها، قبل اطلاق هذا التصريح.

ترتبط كل هذه التصريحات بعامل ثقافي آخر، أكثر عمقاً، وهو أن الدولة في لبنان ترسو على أرضية مؤسساتية هشة جداً. ومصدر هذه الهشاشة إبدال بناء المؤسسات، بالأفراد الذين لا تتسع هالة كل منهم لأي منافسة، حتى لو كانت صحية، وعلى كل المستويات. هل يقدر لبنان مثلاً أن يتحمل مالياً واقتصادياً مغادرة حاكم مصرف لبنان لموقع مسؤوليته؟ ذاك أن المصرف مثله مثل كل مؤسسات الدولة، عانى من الحشو في جسده الوظيفي، حتى بات نواب الحاكم يتوزعون على الطوائف الأساسية، ويُعينون من أباطرتها، تماماً مثل الرؤساء ونوابهم. الدولة بأسرها رُكبت على صور أربعة أو خمسة زعماء أو أباطرة. لا توجد مؤسسة لها هويتها المستقلة، وحازت بتاريخها على ثقة الناس، سوى إلى حد ما الجيش، وهو مكلفٌ بمهمة مُحددة جداً، أي أمن البلاد. حتى في هذه المهمة، للجيش شركاء.

وهذه الآفة تنسحب على المؤسسات السياسية "غير الرسمية"، مثل الأحزاب التي تطوف حول الأفراد وهالتهم، ويكاد يستحيل أن تُنتج حالة سياسية أو ثقافة أو تيار خارج عباءة الزعيم الأبدي. وهذا ينطبق أيضاً على التيار الوطني الحر حيث ينتظر الفصل والمحاكمة الحزبية أي مُعارض لزعامة باسيل.

أليس غريباً أننا نعيش في بلد، المؤسسة الوحيدة التي تحظى فيه ببعض الشعبية والاحترام هي الجيش؟ كيف نبني دولة بلا أعمدة ولا هياكل؟

ربما من الأفضل لباسيل إن كان قلقاً فعلاً على لبنان من خسارة قراره المالي، ووضع اليد عليه، أن يُفكر أقل بنفسه ومستقبله السياسي وشبكات مناصريه داخل الدولة وخارجها، والتركيز أكثر على بناء مؤسسة واحدة على الأقل خارج اطار المحسوبيات. 

هذا بلد مُثقل بالزعامات والشخصيات التاريخية وأساطيرها وخرافاتها، ومُفرغ من المؤسسات. إنها دولة بزعماء لا تتسع قاماتهم للمؤسسات. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024