ابتسامة المقدسي وهي تمتدح إسرائيل

عمر قدور

الثلاثاء 2021/05/11
أصبحت بمثابة ظاهرة صورُ المقدسيات والمقدسيين المبتسمة لحظة قيام الشرطة أو القوات الإسرائيلية باعتقالهم، بل قد لا يتأخر كثر في وصفها بانتفاضة الابتسامات. وكما هو متوقع، سيكون من السهل اعتبار هذه الابتسامة سلاحاً مقاوِماً، ومن الأسهل تالياً وصفها بابتسامة التحدي، لتُسجن في إطار الوصف، وليتغلّب التسييس القسري الضيق على رحابة تلك الوجوه المبتسمة ابتساماتٍ لصيقة بالحياة لا تلهث وراء أن يُقبض عليها في صورة وإطار. 

سرعان ما سيأتي التسييس المقابل، المتربص بدوره، فابتسامة الفلسطيني تصبح بموجبه تعبيراً عن الارتياح لما يلي الاعتقال، حيث يدرك الفلسطيني أو الفلسطينية شروط السجن الذي سوف "ينعم" به. بالطبع يجهر هذا النوع من التسييس بمرجعيته التي تقارن أحوال المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية بأحوال نظرائهم في سجون الأنظمة العربية، سواء كانوا من مواطني تلك الدول أو من اللاجئين الفلسطينيين إليها الذين يذوقون في السجون العربية أصنافاً من القهر والتعذيب تتميز بها عن الإسرائيلية.

وفق المقارنة السابقة، تأتي ابتسامات المقدسيين والمقدسيات كأنما تمتدح إسرائيل، فأصحابها ذاهبون إلى اعتقال هو نزهة بالمقارنة مع السجون العربية. وما يعرفه الفلسطيني عن "رخاء" السجون الإسرائيلية ينزع عن ابتسامته فرضية التحدي التي يسوقها المتحمسون لابتسامته، لتكون ابتسامة العارف بكافة تبعات فعله، وهو ما ينزع عنها أيضاً فرضية العفوية "على الأقل في الابتسامات الأولى التي رصدتها الكاميرا"، وافتراض العفوية مهمَل بطبيعته لأنه لا يخدم التسييس والتسييس المقابل.

في وسعنا أن نضيف إلى الوصف ما يظهر من نضارة في تلك الابتسامات، نضارة ليست ابنة اللحظة، نضارة لا بد أن يكون لها عُمر مطابق لعيش قريب جداً من العيش الطبيعي، إذا لم يكن ذلك العيش الذي صار يُسمى عادياً بمقاييس العصر. لا نلمح في غضون الابتسامات إرثاً من القهر يعكّر صفوها، وهذه الملاحظة "لمن يشاء" يسهل تسجيلها لصالح الاحتلال الإسرائيلي الذي احتفظ لأولئك الشبان والشابات بقدرتهم غير المقيَّدة أو المحدودة على الضحك، وصولاً إلى الضحك منه وعليه.

نستطيع تالياً القول أن شباناً في بلدان عربية لا يستطيعون الابتسام لحظة الاعتقال، ومن المؤكد أنهم لو فعلوا سيدفعون ثمن ابتساماتهم غالياً جداً فوق التعذيب المتوقع أصلاً، وهم إذا ابتسموا يصعب أن تصدر عنهم تلك الابتسامة النضرة الصافية. إن إرثاً متوالياً من القمع والقهر في هذه البلدان سيجعل من الصعب أو المستحيل صدور تلك الابتسامة التي تضمر عدم التعرض لذلك الإرث، من دون أن نحجب عن أصحابها أنواعاً أخرى مختلفة من المعاناة الخاصة.

نستذكر بهذه المقارنة إرث سلطات الاستبداد العربية الذي في إحدى نتائجه يحرم ضحاياه من القدرة الطبيعية على الابتسام والضحك، وأن تقترن هذه القدرة بسياق معيشي اعتيادي، لا أن تُنتزع من ذلك السياق خلسة أو عنوة. من هذا التفصيل، الذي قد يبدو صغيراً أو هامشياً، تنفتح نافذة أخرى للمقارنة بين إسرائيل وأنظمة القمع، من دون "الهرولة" إلى امتداحها عطفاً على عدم التمييز بين طبيعة الطرفين وما ينجم عنها.

كان السلوك الأسدي آخر وأقرب مثال فاقع للمقارنة، فمنذ انقلاب الأسد عام1970 لم يسلم السوري والسوري الفلسطيني، ثم اللبناني والفلسطيني في لبنان، من براثن تلك الآلة الجهنمية التي تعمل خارج السياسة، بل تعمل ضد السياسة ومن أجل استبعادها نهائياً. لم يكن هناك في أي وقت لدى الأسد الأب أو الابن هدف سياسي يُراد تحقيقه، كان الهدف دائماً هو احتكار السلطة ومغانمها، مع العمل بشتى الوسائل وأقساها على عدم بروز منافسين يهددون ذلك الاحتكار، وفي مقدمها الوسائل الوقائية الاستباقية. 

تبرز واحدة من المغالطات الشائعة في النظر إلى حكم الأسد كمعاقِب للسوريين عندما يتجرؤون على "اقتراف" السياسة، فهنا يُنظر فقط إلى العنف المفرط الذي قابل به الحكم محاولات الاعتراض بدءاً من السبعينات وصولاً إلى الثورة. هي نتيجة مختزلة جداً لا تلحظ مثلاً أن إفقار الشرائح الأوسع لا يحركه جشع احتكار الثروة فحسب، بل أيضاً الإمعان في قهر معظم السوريين، ولا تلحظ في مثال آخر الحضورَ المستدام الطاغي لأجهزة المخابرات، أو الاعتقالات الموصوفة بـ"العشوائية" وهي ليست عشوائية على الإطلاق ما دامت تؤدي وظيفة القهر المعمم.

من دون الإسهاب في سرد كل ما راكمه حكم الأسدَيْن من مقومات البؤس والقهر، لا يصعب علينا استخلاص ما يشبه البديهية من حيث ارتباط الضحك بالحد الأدنى من الحرية، ولا يصعب الانتباه إلى أن ثقافة الاستبداد معادية للفرح وللمرح بطبيعتها، سواء امتلكت أيديولوجيا معادية لهما أو اكتفت بالجشع الذي لا يشبع إلى السلطة. في المحصلة، هناك شعوب بغالبيتها الساحقة تتمنى لو تتاح لها تلك الابتسامة النضرة الصافية التي لا يتخللها خوف سابق، أو خوف مما سيأتي. في الواقع رأينا بعضاً من الفرح والمرح في لحظات قليلة من الإحساس بالحرية رافقت الانتفاضات والثورات العربية هنا وهناك، قبل الانقضاض عليها سريعاً من أعداء الحرية والفرح معاً. 

لنتخيَّلْ أن يواجه أحدٌ ما نتنياهو مشبِّهاً إياه ببشار الأسد، وكيف سينتفض هذا اليميني المتطرف الفاسد إحساساً حقيقياً منه بالإهانة. لا نستبعد أن يتمنى نتنياهو في قرارة نفسه لو يستطيع إبادة الفلسطينيين والتنكيل بهم كما يفعل بشار بالسوريين، بل لا نستبعد إن كان يتمنى في قرار نفسه لو يستطيع التنكيل بخصومهم "اليهود" ليستأثر بالسلطة بلا منازع، إلا أن وجود نظام سياسي يكبّله، مثلما يكبّل أي مسؤول إسرائيلي آخر، سواء تجاه الفلسطينيين أو تجاه الخصوم السياسيين.

السياسة، لا الجشع إلى السلطة والاستئثار بها، هو ما يحكم السلوك الحكومي الإسرائيلي. من ذلك، استخدام وسائل ضغط محددة ضد الفلسطينيين، من أجل انتزاع مكاسب محددة أيضاً. إن قوة القهر الموجودة تعمل حثيثاً، من دون العمل أوتوماتيكياً أو خارج الهدف المحدد والمتغير بحسب الظروف، ولا غرابة في أن يكون أسوأ ما في تاريخ الممارسات الإسرائيلية مستلهماً من ممارسات الحروب الأهلية، أي على قاعدة "حرب الوجود" التي تغنى بها العرب من دون ممارستها.

تتعيش المقارنة بين إسرائيل وأنظمة القمع المجاورة، وتالياً امتداح إسرائيل، على الاستعداد المطلق للطرف الثاني من المقارنة لاستخدام شتى أصناف العنف، بينما يفترض أصحابها قدرة إسرائيل على ارتكاب الأفعال نفسها لولا ترفّع حكامها عن الانحطاط إلى مستوى الجيران. إلا أن بنية النظام الإسرائيلي لا تسمح بتحقق أسوأ مخيال عربي عن وحشيته، ولا تسمح بالتحول إلى نظام قمعي مشرقي، هذا التحول ينسف أساس وجود إسرائيل وجاذبيتها الضرورية لاستقطاب يهود العالم. هو أيضاً ينسف انتماء إسرائيل إلى المنظومة الغربية، ورغم كل ما قيل "بحق أو بغير حق" عن تجاهل الغرب الممارسات الإسرائيلية في حق الفلسطينيين فإن هذا التجاهل لا يرقى إلى تجاهل الغرب نفسه تلك الانتهاكات الفظيعة التي ترتكبها الأنظمة العربية. على الأقل يعاتب الغرب تل أبيب بناء على القيم المشتركة بين الجانبين، في حين لا قيم مشتركة تجمعه بأي طاغية عربي، ولا رأفة أيضاً بشعوب المنطقة التي لا يُنظر إليها كشريك. 

تُقارَن إسرائيل بالقيَم التي ينسبها قادتها إليها وبانتمائها للمنظومة الغربية، ومن الخطأ الإصرار على مقارنتها بمجموعة من مهووسي السلطة في الجوار. هذه المقارنة التي تطل من مناسبة لأخرى تمتدح إسرائيل بغير وجه حق، وتمتدح الأنظمة بوضعها في مقارنة غير مستحقة. ربما تجوز المقارنة يوماً، عندما يتمكن أبناء المنطقة من الابتسام كما يفعل المقدسيون، وحتى ذلك الحين لا معنى لانتشار وسم "أنقذوا حي الشيخ جراح"، لا معنى له إذ يُكتب بالعربية.  

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024