سارة حجازي: الموت شأن عام

شادي لويس

الأربعاء 2020/06/17
الموت، كالميلاد، شأن عام. يحتاج الموتى لشهادة، كما المواليد، تصاريح للدفن ومستند طبي بل وشاهدين أيضاً في بعض الأحيان، مُعزّين ومسيرة وقاعة. ربما يختلط الناس عند مولدهم وفي حياتهم، لكن المقابر تفرقهم، بحسب أديانهم ومللهم، وفي الأغلب طبقاتهم أيضاً، فالحدود بين هؤلاء وأولئك واضحة وراسخة. الموت هو الملاذ الأخير للهويات والانتماءات، ومتحفها الأكثر جموداً. كل تلك الشعائر المرتبطة بالدفن، الرموز والعلامات والإيماءات في طقوس الجنازة، لا تتعلق بالموتى قدر تعلقها بالأحياء، مواجهة حقيقة الفناء، وعبور الجماعة إلى صدمة الفقد جانب واحد من وظائفها. طقوس الموت هي الفرز الأخير والنهائي، تمارس الجماعة على أعتابه عمليات النبذ والاحتواء إلى مداها الأقصى، لتؤكد تماسكها. العقوبة مضاعفة على المنبوذين والخارجين عنها، العار على الأرض والحرمان من الرحمة في الآخرة، وفي الحالتين تحتفظ العقوبة القاسية بمعناها، اللفظ من الجسد الجماعي. الآخرة منفى أبدي.

تلاحق العقوبة، سارة حجازي بعد موتها. رفع علم قوس قزح كان جريمتها، السجن والتعذيب والاعتداء الجنسي في أماكن الاحتجاز، مع الوصمة الاجتماعية خارجه. وبعد هذا كله، كان المنفى بعضاً من العقوبة الأرضية. عقوبة كانت تعني الموت، الموت الفعلي، أما مطاردوها حتى الآخرة فيعرفون إن أياديهم لا تطولها هناك (ولذا يرون الانتحار جريمة)، يدركون هذا جيداً. هي لا تعنيهم في شيء، سوى أن تكون عبرة. من مثلوا بالجثث، وعلقوا الرؤوس على بوابات المدن في الماضي، لم يظنوا أنهم يؤلمون الموتى، بل كان غرضهم أن يفزعوا من بقي حياً داخل أسوارها. في اللغة، التمثيل بفلان، حياً أم ميتاً، هو أن تجعل منه مثلاً ومثالاً، أن تظل صورة الأنوف المجدوعة والعيون المقلوعة ماثلة، دائماً، يحملها أصحابها على أجسادهم كعقاب مرئي لا يُمحى، ويتطابق مع وجودهم. أما سيرتهم بعد الموت، فإعلان أطول عمراً منهم، ومن عُمر عقوبتهم.

في روايته الأشهر، "عمارة يعقوبيان"، الرواية العربية الأكثر ترجمة وقراءة بلغات أجنبية، الرواية التي أضحت للأسف عنواناً لأدبنا المصري المعاصر، يرسم علاء الأسواني صورة لوطن مأزوم ومريض. تستلهم الرواية تراثاً رمزياً شديد الرسوخ في المخيال الجمعي، حيث الانحلال الجنسي صورة وعلامة على تداعي المجتمع. جنباً إلى جنب مع التعذيب وفساد السياسة والتطرف الديني، يضع الأسواني المثلية الجنسية كآفة تنخر جسد الوطن/العمارة. المثلية كتشوّه، اعتداء في الطفولة وتفكك أسري، المثلية المفسدة لغيرها، المستغلة والمغوية، والتي ستقود الجميع إلى عقاب قاسٍ، على مقاس مأساة يونانية، موت محقق وفادح في النهاية. تخبرنا "يعقوبيان" بأن المثلية خطر على المجتمع، أو على الأقل هي مثال أو رمز لما يمكن أن يكون خطراً عليه.

يحوم مطاردو المنبوذين في الآخرة، على أرضية الخيال البليد نفسه، لكن إثم سارة الأكبر - كما يقولون- هو الجَهر. فهي رفعت علمها في مكان عام، المجاهرة اعتداء على الجماعة المهزوزة، جرم علني، ذنب مضاعف، وعقوبته يجب أن تكون في العلن، وكذا جماعية.

المعركة حول ذكرى سارة ليست بالضرورة معركة مع طواحين الهواء. المدافعون عن سيرتها يدركون قطعاً أن المعاناة الطويلة والأذى اللذين لحقا بها في عالمنا، لا يمكن ردّه أو شفاؤه بعد اليوم. عارِفوها من قرب، مسّهم رحيلها كفاجعة شخصية. والمتعاطفون، جهراً أو سراً، من دون معرفة حميمة بها، يمكنهم أن يتصوروا أنفسهم مكانها، ضحايا لجرائم دولة سلطوية، يمكن أن تنال منهم لأسباب كثيرة أو لأي سبب، ومطارَدين من مجتمع مأزوم في بحثه عن ذبائح تحمل عاره الحقيقي. لكن لهؤلاء جميعاً، يظل موت سارة شأناً عاماً، موت يتجاوزها ويخصنا جميعاً، موت لم يكن له أن يكون شأناً عاماً بالأساس، وهذا تحديداً جوهر عموميته.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024