العنصرية هي الحل

عمر قدور

السبت 2019/07/20
هاجس جديد انشغل به عدد ضخم من السوريين في الأيام الأخيرة، يتمثل بقرار أصدره وزير الداخلية التركي يتعلق باللاجئين السوريين المتواجدين في تركيا من دون تصاريح إقامة رسمية، حيث من المحتمل ترحيل آلاف السوريين بناء عليه. القرار تزامن مع إجراءات اتخذتها بلدية استنبول لترحيل السوريين المقيمين في المدينة من دون بطاقات إقامة خاصة بها، وهؤلاء إما مشمولون بقرار وزير الداخلية أو لديهم بطاقات إقامة تركية في بلديات أخرى يتوجب عليهم العودة والإقامة ضمن نطاقها. 

التزامن يعني وجود انسجام بين توجهات وزارة الداخلية الخاضعة لسياسة حزب العدالة وتوجهات البلدية التي يرأسها معارض، وكنا قبيل إعادة الانتخابات فيها قد شهدنا خطاباً لمرشح حزب العدالة إزاء اللاجئين السوريين في استنبول لا يقل سوءاً عن خطاب منافسه. وحتى إذا عزونا خطابات الطرفين آنذاك إلى اعتبارات انتخابية فهي تؤشر إلى واقع وجود سوق رائجة للعنصرية إزاء السوريين، سوق تتغذى عليها تلك الخطابات وتغذيها بحيث تصبح العنصرية هي الحل بقدر ما الآخر هو المشكلة.

الإجراءات التركية الجديدة قد تقدم سنداً لتصريحات جبران باسيل العنصرية تجاه اللاجئين السوريين في لبنان، من دون أن تنتقص من مكانته بوصفه الأجدر على إظهار العنصرية بأقذع أشكالها، ومن دون نسيان وجود قوى لبنانية مستترة تسمح له بالشطط. والواقع أن العنصرية الباسيلية أقرب إلى العنصرية التي أظهرها موالو الأسد مع انطلاقة الثورة، فحينها لئلا يستخدم هؤلاء خطاباً طائفياً مباشراً لجأوا إلى شتم العرب "أو العربان حسب وصفهم"، على اعتبار أن السُنّة هم عرب طارئون على سوريا بينما الآخرون هم سلالة الفينيقيين، وهكذا لا يكون الانقسام طائفياً فقط وإنما حضارياً موغلاً في القدم. ولأن أدوات الخطاب المحلية فقيرة ولا إرث لها تمت الاستعانة بالإرث الفارسي الأقدم الذي يعج بتحقير للعرب من نوع "شاربي بول البعير"، مع نفحة من الاعتزاز الحضاري المقابل تذكّر أحياناً بأدبيات القوميين السوريين.

في كل الأحوال، وفي أحد أوجهها، العنصرية هي شكل من أشكال الحرب، ولا يندر ضمن التشبيه ذاته أن تكون اختراعاً للعدو "إذا لم تكن بناء على عداء قديم معه"، إما من أجل تبرير حرب قائمة، أو من أجل التهرب من استحقاقات وأسئلة داخلية لا يُراد الإجابة عنها. بدءاً من شبيحة الأسد، كان اختراع التمايز العربي الفينيقي من أجل عدم الإجابة على سؤال الثورة الوطني الديموقراطي وأحقيته، وعندما كانت الثورة تطرح أفضل الشعارات كان من الضروري وصمها بثورة المتخلفين حضارياً لمنع مجرد التفكير في أطروحاتها. بالطبع سيكون للعنصرية هنا وظيفة امتناع السياسة، وفي أحط أشكالها التي رأيناها لم تكن تراوغ في رفع شعار الإبادة بدل السياسة.

تطورُ الخطاب التركي، والمناخ الداخلي المحايث له، يمنحنا فرصة أفضل لملاحظة وظيفة العداء للسوريين بخلاف الاستعدادات المسبقة لموالي الأسد وشريحة واسعة ومتباينة من اللبنانيين. لا بد أولاً من التنويه بأن تركيا هي أكبر مستضيف للاجئين السوريين في الخارج، وبعيداً عن الاعتبارات الأخلاقية هي الأكثر قدرة على الاستضافة من بين دول المنطقة، مع الإشارة إلى أن دول الخليج ظلت مستثناة من تأثيرات اللجوء بسبب خضوع الدخول إليها لإجراءات دقيقة وصارمة تتعلق بالعمالة الوافدة. يأتي بعد ذلك الانخراط التركي في الشأن السوري، ومن ثم تواجد الجيش التركي في بعض المناطق سواء برضا من الأهالي أو عنوة عنهم، ليزيدا من حجم الاشتباك التركي بالشأن السوري.

ما يتندر عليه بعض السوريين أن أردوغان قال يوماً: حماة خط أحمر. ثم تراجعت الخطوط الحمراء يوماً بعد يوم، أو بالأحرى غابت عن التصريحات التركية حتى مع القصف اليومي الذي يتعرض له ريفا حماة وإدلب المشمولان بتفاهم تركي-روسي، ومع تعرض نقاط المراقبة التركية نفسها لقصف من قوات الأسد، ليبقى الخط الأحمر الوحيد لصيقاً بالملف الكردي. بين تلك البداية وذلك المآل، ثمة مساحة واسعة للتحدث عن رغبة تركية في تغيير الأسد، وأيضاً عن أطماع تتعلق بتركيا كدولة إقليمية كبرى، مثلما هناك الكثير في المقلب الآخر من محاولات تحجيم الدور التركي، محاولات تناوبت عليها قوى دولية وإقليمية ذات صلة بالملف السوري. 

علاقة تركيا بالملف السوري انعكست على مجمل علاقاتها الدولية، وانتهت معها سياسة "صفر مشاكل" لتضطرب على نحو غير مسبوق في العقود الأخيرة. وجود حزب العدالة في الحكم، الذي كان يتوافق مع رؤية ورغبة غربية، لم يعد محل ترحيب كما كان من قبل، والحزب نفسه تغير لصالح صعود أردوغان وتهميش نسبة عالية من كوادره السابقة. إذا أخذنا الاقتصاد مرآة لكل تلك التطورات فإن فقدان الليرة التركية حوالي نصف قيمتها إزاء الدولار يعكس الأزمة التركية المركّبة خارجياً وداخلياً، ونستطيع القول أن النسبة الأضخم من اللاجئين السوريين عبرت إلى تركيا عندما كانت في وضع أفضل، ولم تكن هناك أزمات كبرى يُراد تعليقها على مشاجب الآخرين بدل البحث فيها ومعالجتها، وحينها أيضاً لم تُضخّم الفوارق الثقافية بين الأتراك والسوريين كما سيحصل لاحقاً، فتركيا أسوة بجميع بلدان المشرق العربي فيها أصلاً فوارق ثقافية إثنية ومناطقية ومذهبية.

يفيدنا المعيار الاقتصادي وتشابكه مع السياسي أيضاً في تفهم تباين بعض المواقف الأوروبية، فالاقتصاد الألماني هو الأقوى أوروبياً، واستوعبت ألمانيا العدد الأضخم من اللاجئين السوريين في أوروبا بكلفة سياسية أقل من بلدان أخرى شهدت انتصار اليمين المتطرف المعادي للأجانب. فرنسا استقبلت عدداً متواضعاً لا يقارن إطلاقاً بنظيره الألماني، وشهدت صعود اليمين المتطرف الشعبوي بسبب أزمات هيكلية يعاني منها الاقتصاد الفرنسي من دون أي برنامج سياسي واقعي مطروح لمعالجتها، وهي فرصة لليمين المتطرف كي يطرح الحل الأسهل برمي المشكلة على الأجانب وتقديم الحل بالتخلص منهم.

ربما يجب ألا ننسى أن الاقتصاديات الكبرى لم تتعافَ بعدُ من آثار الأزمة الاقتصادية لعام 2008، مع بروز منافسة لا يُستهان بها من شرق آسيا. هذا واحد من عوامل بروز اليمين الشعبوي في الغرب إجمالاً، وهو مناخ مغاير جداً للمناخ الذي ساد لعقدين إثر انهيار المنظومة السوفيتية وانتهاء الحرب الباردة، حيث كان التطلع في ذروته من أجل جعل العالم قرية كونية، ومن أجل إعلاء حقوق الإنسان حتى على حقوق أخرى مثل السيادة والحدود الدولية. هنا، على الصعيد الثقافي والمجتمعي، من المستحسن تذكّر القوى الأصولية الموجودة في كافة المجتمعات، والتي تزداد شراسة كلما حانت لحظة تغيير كبرى تنذر بتراجع مكانتها، ومن المألوف دائماً أن تتحالف قوى الماضي علناً أو ضمناً لمواجهة المستقبل الذي لا يروق لها جميعاً. ضمن هذه اللوحة يتحمل السوري، فوق ما يتعرض من إبادة، وزر أن يكون كبش فداء لأزمات الآخرين، وما يزيد في قساوة هذه الضريبة أنه لم ينعم بأي مكسب عندما كان العالم يخطو إلى الأمام.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024