عون الذي لم يعد رئيساً

ساطع نور الدين

الخميس 2020/06/25
لم يعد هناك مفر من كلام قاسٍ، موجعٍ، في حق رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي ارتكب في لقاء بعبدا معصية وطنية، تتجاوز خطيئة المس بـ"الميثاقية" المخادعة والمصطنعة التي تتذرع بها الطوائف والمذاهب كلما خطر في بالها إختبار قوتها وعلاقتها مع الدولة والسلطة..

مرة أخرى، يثبت الرئيس عون انه يعيش في قوقعة، في انفصال تام عن الواقع.. وهو ربما ما يجيز الشروع في البحث المحرّم والمكروه في مسألة جدارته للاستمرار في قيادة البلد، من موقع رئاسة الجمهورية، الذي يحتاج إلى حيوية إستثنائية، ودينامية خلاقة، وإدارة مبتكرة للشأن الوطني العام.

لقاء بعبدا، الذي حصره الرئيس عون بـ"السلم الاهلي"، وجاهر بأننا "لامسنا أجواء الحرب الأهلية بشكل مقلق"، هو بحد ذاته تهديد جدي لأمن البلد واستقراره.. حتى ولو نُظر إليه باعتباره خدعة، هدفها صرف الأنظار عن المعضلة الحقيقية التي يواجهها البلد، وهي معضلة إفلاس الدولة وإفقار المواطن وتجويعه.

لا أحد يعرف من أين جاء الرئيس عون بفكرة أن البلد يلامس الحرب الأهلية، في الوقت الذي تعيش فيه الطوائف والمذاهب كافة لحظة نادرة في التاريخ من الوحدة والتفاعل والتعاون، لمواجهة مأزق وطني مشترك، يصيب جميع أفراد المجتمع اللبناني من دون استثناء أو تمييز، ويوحي بمستقبل مظلم تتغير فيه صورة لبنان ووظيفته، وتتحلل جميع عناصر تميزه الاقتصادي والثقافي والتربوي والصحي.. وتتهاوى قدرة شعبه المقيم والمغترب على البقاء.

كان الرئيس عون في ذلك اللقاء المستعجل، مفترقاً حتى عن الرئيس الجالس إلى يمينه نبيه برّي والرئيس الجالس إلى يساره حسان دياب، اللذين لم يأتيا على ذكر الحرب الأهلية ولا على التحريض الطائفي والمذهبي الذي لاحظته رئاسة الجمهورية وحدها دون سواها. فالرئاسة الثانية استبقت اللقاء بالدعوة إلى إعلان حالة طوارىء مالية. والرئاسة الثالثة طرحت على اللقاء سؤال مختلف أبناء الطوائف والمذاهب: ما هو سعر صرف الدولار اليوم.

في كلمته الافتتاحية بدا أن الرئيس عون لا يعرف البلد حق المعرفة، ولا يعرف كيف يكون التحريض الطائفي والمذهبي، ولا يدرك كيف تلامس الحرب الأهلية، وكيف تعود أجواؤها فعلاً. لم يشعر أحد من اللبنانيين، لأي طائفة انتمى أو لأي حزب أو تيار أو حركة، أن ثمة صراعاً أهلياً يلوح في الأفق. العكس تماماً هو الصحيح. ثمة نزاع فعلي يخوضه تسعون بالمئة من المواطنين ليل نهار، حول لقمة العيش، والقدرة الشرائية للعملة الوطنية، ووفرة المواد الغذائية، وحول تقنين الكهرباء والماء.. تلك هي التهديدات والمخاطر، التي أنزلت ولا تزال تنزل الناس إلى الشوارع.

الرئيس عون قصد بقوله عمليات العنف والحرق والتدمير وقطع الطرقات التي شهدها وسط بيروت وطرابلس، أو حتى تلك التي انتهكت خط التماس الوهمي بين الشياح وعين الرمانة. وهي أعمال قام بها رعاع ومجرمون، ألقت الأجهزة الأمنية القبض على معظمهم، وما زالت تلاحق المتوارين منهم.. من دون أن يعني ذلك أبداً أنهم باتوا جزءاً من لعبة سياسية داخلية أو مؤامرة خارجية على أمن الوطن واستقراره.

وهذا تقدير وتحليل يتقاسمه ويتبناه حتى الأطفال، وكل من يعرف ألف باء السياسة والأمن في البلد، الذي لا تزال ذاكرة أبنائه حية، إلا من ذكريات الحرب الأهلية التي مضى عليها ما يقرب من نصف قرن، وإن استُعيدت بعض صورها مؤخراً، فذلك فقط للدلالة على أن العهد الحالي قاد البلد إلى قعر لم يستطع أن يحفره مجرمو تلك الحرب وروادها.

لا يا فخامة الرئيس، ما هكذا تقارب الأزمة الوطنية الأكبر والأخطر التي يعيشها لبنان. الإحالة إلى الحرب الاهلية، تحتاج إلى إلمام بالتاريخ وإلى دقّة في مقاربة وقائعه الفائتة.. حتى ولو كان القصد الضمني منها هو التحذير من فتنة سنية شيعية تهدد البلد. وهو أمر مبالغ به أيضاً، وغير مسند إلى أي حقائق أو معطيات أو حتى رغبات، حتى ولو تحولت شتيمة عائشة وعلي إلى هتاف صارخ ودائم.

لا يا فخامة الرئيس، ما هكذا تعمل رئاسة الجمهورية، وما هكذا يكون اللقاء في بعبدا.. في هذا الظرف الاقتصادي والمالي العصيب، الذي لا يحتمل المزيد من الحفر في القاع.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024