الكيماوي الروسي وربيبه السوري

بسام مقداد

الخميس 2017/11/02

قدمت روسيا ، الثلاثاء، إلى مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة "الملاحظات الأولية" للإختصاصين الروس على تقرير الآلية المشتركة بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية حول استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا . وكانت روسيا قد استخدمت ، في الأسبوع الماضي ، حق الفيتو ضد القرار المذكور ، لأنه يتجاهل كلياً ، برأيها، آراء وتقويمات الإختصاصيين الروس وتغيب عنه الإجابات عن الأسئلة ، التي "طُرحت علينا". ووعدت حينئذ بتقديم تحليل "أكثر عمقاً وشمولية" للتقرير المذكور وتصوراً عن الخطوات اللاحقة بشأن انتهاء مدة الآلية المشتركة في 16 تشرين الثاني/نوفومبر الجاري .

يرى الإختصاصيون الروس أن القراءة المتأنية للتقرير تجعل من الصعب القول بمهنية إعداده ، بل هو بالأحرى ، يحمل "طابع الهواة"، ويرتكز على الفرضيات و"الإستخدام الإنتقائي للوقائع" . ويرى هؤولاء ، حسب نوفوستي ، أن التقرير حول خان شيخون "لا يتضمن سوى تأكيدات كلامية تستند إلى "إثباتات عينية" تم الحصول عليها من تلك المعارضة عينها والمنظمات غير الرسمية التابعة لها، وإلى آراء وتقويمات مؤسسات وخبراء مغفلين "مستقلين"" . وتذكّر نوفوستي بما كانت وزارة الخارجية الروسية قد قالته في حينها ، من أن حادثة شيخون "قد تكون حدثاً مفبركاً " .

في هذا الوقت ، الذي كانت تحمي فيه روسيا الكيماوي السوري ، باستخدام حق الفيتو ضد التقرير المذكور، ويعد خبراؤها ملاحظاتهم "الأكثر عمقاً وشمولية" حول استخدامه في سوريا ، كان ذوو ضحايا الكيماوي الروسي يحيون الذكرى الخامسة عشرة لمجزرة قاعة المسرح في موسكو في 26 تشرين الأول /أوكتوبر العام 2002 ، التي ذهب ضحيتها ، حسب الأرقام الرسمية ، 130 ضحية من الروس والأجانب ، بينهم 10 أطفال ، إضافة إلى 50 انفصالياً شيشانياً ، بينهم عدد من النساء .

في الكرملين لا يحبون استعادة ذكرى هذه المجزرة ، ولم يشارك أي من المسؤولين الروس في أي من النشاطات العديدة ، التي أُقيمت في هذه المناسبة ولم يأت أحد منهم على ذكرها . لكن ضحايا المجزرة الأحياء ، الذين ما زالوا يعانون من آلام و"أمراض غريبة" ، وذوي الضحايا لا زالوا يتذكرون جيدا كل تفاصيل تلك الأيام المشؤومة . ففي 23 تشرين الأول/أوكتوبر العام 2002 قامت مجموعة من المسلحين الإنفصاليين الشيشان باحتجاز 916 رهينة في قاعة أحد مسارح موسكو ، وطالبوا بسحب القوات الفدرالية الروسية من الشيشان فوراً وإنهاء الحرب هناك ، وإلا سوف يقدمون على قتل الرهائن .

طلب الكرملين من غريغوري يافلنسكي ، زعيم الحزب الديموقراطي الموحد (يابلاكا) ، التفاوض مع المسلحين لإطلاق سراح الرهائن ، دون أن يزوده بما يمكن التفاوض عليه . ويتذكر الرجل بهذه المناسبة ، بأنه حين وصل إلى مكان الحدث ، رأى مبنى المسرح مطوقاً بقوات كبيرة من المخابرات والشرطة ، وثمة مسافة فاصلة مضاءة بالبروجكترات وتوجد على أرضها جثتان . فأدرك الرجل ، على قوله ، أن مهمته محفوفة بخطر إطلاق النار عليه واستخدام مقتله حجة لتنفيذ مخطط ما لا يعرفه . وحين زار الكرملين ، بعد حديثه مع الخاطفين ،الذين طلبوا أن يتحدث بوتين مع الزعيم الشيشاني مسخادوف لإنهاء الحرب ،  أدرك يافلنسكي أن الكرملين بصدد الإعداد لتنفيذ مخطط ما يجهل طبيعته.

وعن مخطط الكرملين هذا ، تقول آنا بوليتكوفسكايا ، مراسلة صحيفة "نوفايا" المعارضة في الشيشان حينئذٍ ، والتي وُجدت مقتولة العام 2006 في مدخل المبنى ، الذي كانت تسكنه ، أن الكرملين لم يكن معنياً بحياة الرهائن " فالناس غبار" بالنسبة له ، بل كل ما كان يهمه هو الظهور بمظهر القوة والحفاظ على هيبته.

وتكشَّف مخطط الكرملين السري  لمعالجة الوضع في مسرح موسكو صبيحة 26 تشرين الأول/أوكتوبر ، حين كان المسلحون والرهائن ينتظرون قدوم ممثل الكرملين في منطقة القفقاز ليبلغهم عن حل ما للوضع . تتذكر تلك الصبيحة  الباكرة فيكتوريا كروغلوفا ، التي كانت بين الرهائن مع ابنتها(18 عاماً) وشقيقتها وابن شقيقتها (15 عاماً) . تقول هذه المرأة لصحيفة MK الروسية ، أنها شعرت فجأة في تلك الصبيحة برائحة لها طعم الحلوى ، وقالت لنفسها وهي تفقد الوعي " إنه الغاز القاتل" وحلت الظلمة بعد ذلك .

في تلك الصبيحة ، ووفق الإعلان الرسمي للمخابرات FSB ، بدأت القوات الخاصة باقتحام مبنى المسرح ، ممهدة لذلك بإدخال "غاز منوم" عبر أنابيب التهوئة . لكن "الغاز المنوم" هذا ، الذي قال الإعلان الرسمي بأنه أحد مشتقات النفتالين ، لا تزال تركيبته الفعلية مجهولة حتى يومنا هذا ، ويحظر على الأطباء ذكره كسبب للأمراض المزمنة ، التي بعاني منها الأشخاص ، الذين بقوا على قيد الحياة . وتقول فكتوريا هذه ، أنها تعاني من إلتهاب في الكبد نتيجة تسمم ، كما يقول الطبيب ، الذي يحذرها من أن هذا التشخيص لا يمكن تثبيته رسمياً . وفقدت هذه المرأة إبن شقيقتها ، الذي أصيب بطلق ناري في رأسه ، لكن وثيقة الوفاة ، التي تسلمها ذووه إثر تشريح الجثة ، لا تذكر سبب الوفاة ، وتمت تغطية مكان الإصابة بالشمع .

ونقلت BBC الناطقة بالروسية عن المواطنة الكازاخية سفتلانا غوبيرفا ، انها فقدت في مقتلة الغاز تلك إبنتها(13 عاماً) وخطيبها الأميركي . وتقول هذه المرأة ، أنه لم يكن هناك مايبرر استخدام الغاز ، بل هي تعتقد "وقد أكون مخطئة في اعتقادي هذا" ، أن الأمر كان بمثابة اختبار للغاز . فقد كانت الظروف مثالية لذلك برأيها : قاعة كبيرة ، تضم مختلف الأعمار من اطفال وصبية وفتيات ورجال ونساء وكبار السن . اي أن الأمر مثالي لإجراء اختبار . لقد مر 15 عاماً ، ولم يتم تحديد تركيبة ذاك الغاز حتى الآن . وهي تقول بأنها ، حين استفاقت من غيبوبتها في المستشفى ، الذي نقلت إليه بعد المقتلة ، كانت تستفرغ دماً ، وهي تعاني الآن من آلام في العظام والمفاصل ، والأطباء "لا يستطيعون علاجي ، فهم لا يعرفون بما تم تسميمي وما هي الآثار المترتبة على ذلك" .

وتقول المرأة أن ليس لكازاخستان تجربة في الحروب ، على عكس روسيا ، التي تملك تاريخاً طويلاً في مختلف الحروب .  وتقول بأنها زارت طبيب عظام روسي ، وهو طبيب عسكري أنهى خدمته رئيساً لمستشفى عسكري ، قال لها : " لا أفهم ، لماذا ، أنت شخص مدني ، لديك تغيرات في العضلات والمفاصل ، كما لو أنك تعرضتِ لهجوم كيميائي " . وتقول أنه لدى خروجها من المستشفى الأول ، الذي زارته ، قال الطبيب " إذا كتبنا التشخيص الحقيقي للحالة ، فسوف نعتقل" . وقد انتزع الملف الصحي من المرأة ، وحين ساءت حالتها الصحية قامت ببعض الفحوص وتبين أنها تعرضت لجلطة دماغية . وتقول بأن لهذا الغاز تأثيراً على مناطق محددة من الدماغ ، وهو ما تسبب بالجلطة المذكورة .  

لقد اعتادت الأنظمة القمعية في المنطقة على الإهتداء بالخبرة الروسية في قمع شعوبها واضطهادها وتقتيلها ، وروسيا ما اعتادت أن تبخل على هذه الأنظمة بالحماية والدفاع عنها حين تدعو الحاجة . وهي قدمت  وتقدم لهذه الأنظمة المثال في كيفية جعل الماء أغلى من دم الإنسان ، على قول طفلة روسية في مذكراتها خلال الحرب العالمية الثانية . وليس الدفاع الروسي المستميت في اروقة المنظمة الدولية عن الكيماوي السوري، الذي نشهده هذه الأيام ، سوى دفاع مضمر عن الكيماوي الروسي نفسه ، وإن كان متأخراً.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024