أحلام مصرية بالحرب

شادي لويس

الثلاثاء 2020/01/07

بشكل غير رسمي، باتت لدينا جبهة غربية للقتال، وفي الحقيقة كانت لدينا دائماً جبهة هناك. منذ أن وقّعت مصر اتفاقية كامب ديفيد، قصفت الطائرات المصرية المدن الليبية بضع مرات، في زمن السادات، وبعدها مرات أخرى معلنة في السنوات القليلة الماضية، وهذا غير المعلن طبعا. الحضر الليبي المكشوف من دون غطاء جوي يذكَر، أضحى مساحة لتمارين الثأر، وهدفاً لانتقام عشوائي منخفض التكاليف، تهدئة لغضب داخلي واستعراضاً للقوة العسكرية المصرية التي بقيت معطلة لعقود. بعد هجمات إرهابية على الأراضي المصرية، أو عقب المذبحة التي ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية ضد العمال الأقباط على الشاطيء الليبي، حولت الغارات الجوية المصرية شعوراً عميقاً بالمأساة إلى فرحة ممزوجة بالتشفي والانتصاب الوطني.

اليوم، وفيما تتسارع الأحداث بالإعلان عن بدء وصول القوات التركية إلى ليبيا، تلتزم السلطة المصرية بخطاب ملتزم ودبلوماسي تجاه التطورات الخطرة، نغمة هادئة لكن قوية بما يكفي. إلا أن جوقة من الإعلاميين وكتّاب الأعمدة من مؤيدي النظام المصري، يطلقون صيحات الحرب ويتطوعون لبذل النصائح بشأن إدارة المعركة دبلوماسياً وعسكرياً. الجمهور الذي روّعه تعطل المرور في ميدان التحرير لأيام، أثناء الثورة، وتوقف عجلة الإنتاج بسببها، هو نفسه لا يجدد غضاضة في التهليل لاندلاع الحرب الشاملة.

خيال تلفزيوني ركيك يقود التجهيز للمعركة، قطاع من المصريين يمنّي النفس بهزيمة "حريم السلطان"، والثأر من "ممالك النار" العثمانية، فقد حانت الفرصة للانتقام من مقتل البطل المملوكي، طومان باي. مدهش كيف اكتشف المصريون هويتهم المملوكية الشركسية فجأة. الهويات الفارغة تحتاج دائماً إلى آخر، وإلى تاريخ -ولو مختلق- من المظلومية تجاهه وضده.

وصول العثمانيين إلى طرابلس، كان هذا ما ينتظره الجميع. كل دعايات النظام عن المؤامرة الداخلية والخارجية تتحقق، الكابوس الذي روّج له الإعلام تحول واقعاً. صفقات الأسلحة غير المبررة، الفرقاطات والغواصات والقطع البحرية الأصغر ذات الماركات الألمانية والفرنسية والروسية، هي اليوم على أهبة الاستعداد، يهنئ مؤيدو النظام أنفسهم -وعن حق هذه المرة- على بُعد نظَر القيادة. فالمعركة، كما يبدو، ستكون بَحرية، والصراع على من يمتلك البحر الأبيض. التقشف الاقتصادي والبطش بالمعارضين سيكون مبرراً أكثر، بل واجباً وطنياً، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة. خيانة الآخرين أضحت واضحة كالشمس. مؤيدو الخليفة الجديد في مصر يهللون لاقتراب قواته من الحدود، يقودهم شعورهم الخاص بالمظلومية والرغبة في الانتقام من مذبحة "رابعة" وما تلاها، ثأر لا يختص به النظام وحده، بل عموم المصريين الذين خذلوهم وهلّلوا لمقتلتهم. يعاير هؤلاء مواطنيهم بتسليح الجيش التركي، جيش دولة في حلف الناتو، ويتوعدونهم ضمناً بالطبع.

سرّاً، يتمنى البعض أن تمسي مغامرة غير محسوبة للنظام في الصحاري الليبية، مقدمة لحلحلة الوضع المأزوم في الداخل، التململ الشعبي بدرجة ما، التأزم الاقتصادي الأعمق، أي شىء يحرك المياه الراكدة. لهؤلاء رفاق في السجون وبعضهم مختفٍ، كارثة وطنية ربما ترفع عنهم خطر الاعتقال الدائم، أو ترخي يد الأمن القابضة على مصائرهم، أو تضع النظام في أزمة تجبره على طلب الالتفاف الوطني أو ربما تمنحه انتصاراً يمنحه قدراً من الثقة والزهو بما يكفي للعفو عن خصومه في الداخل أخيراً.

ليس هناك ما هو أكثر مأساوية من هذا، أن تكون أحلام الحرب هي المخرج الوحيد لوضع داخلي مأزوم إلى الحد الأقصى، علامة على خيالات جامحة من الهوس المرَضي والمظلوميات المتبادلة والأحقاد والتواريخ المختلقة وطاقات العنف المكبوتة وأطماع إقليمية حقيقية تافهة ومغرقة في قصر نظرها. ما يمنح بعض التعزية وسط كل هذا، أو ربما ما يزيد الشعور بالأسى، هو أن أحداً لا يريد الحرب فعلاً، وأن حرباً حقيقية لن تقوم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024