نهاية القائد في لبنان

وجيه قانصو

الخميس 2019/10/24
انتهى زمن القائد في لبنان، الذي نعرفه بألفاظ متعددة: بيك، رئيس، زعيم، مرشد، مرجع. عليه أن يعرف ويدرك أن ما يحصل الآن في لبنان يقول له بوضوح جهز حقيبتك وارحل. انتهى زمن القطيع والحشود والجماهير، التي تحتشد بأفواه فاغرة وعيون شاخصة إلى منقذهم ومدبر أمرهم وملاذهم في الملمات والأزمات. انتهى زمن البيعة الذي يوقع فيه اللبنانيون على بياض للقائد إلى الأبد، انتهى زمن التفويض الذي يملك فيه الزعيم أن يقرر عنا من دون حتى أن يطلعنا على ماذا يفعله ولماذا. انتهى زمن الوحي الذي يدعيه القائد لنفسه ويدير على أساسه البلاد ويتحكم بالعباد، انتهى التميز والتمايز والاصطفاء الذي يجعله فائقاً ويجعلنا نحن اللبنانيين قاصرين ومقصرين. انتهى الزعيم الذي يعتبر المال العام حقاً شخصيا له وينفق علينا من جيوبنا ويمنننا بذلك. انتهى القائد الذي نفديه بأرواحنا ودمائنا، ويرانا أرقاماً لا أفراداً وأشخاصاً، بل أمواجاً تتدافع للقائه وحشوداً تتلقى كلامه باندهاش. انتهى سحر كلام القائد الذي الذي لم يكن أكثر من خدع سمعية وبصرية.

بل أقول بات القائد عندنا فضيحة: في أخلاقه في نهبه العلني للمال العام، في تهوره وخرقه حين يورط الوطن بمواقف وسياسات كارثية، في حبه للسلطة ولو فوق مكب نفايات، فضيحة في شهواته وترفه، في خطابه حين يتصور المتلقين أطفالا وقصَّر، في قلة ذكائه وسخف وعيه وهشاشة ثقافته حتى بات مادة دسمة للتندر والضحك، في مواطنيته حين يجاهر بعمالته للأجنبي وتبعيته له، في كثرة كذبه وتضليله، في قلة شفقته وقسوته ولامبالاته بوجع الناس وآلامهم، في أنانيته ونرجسيته التي تجعله يظن أنه مركز هذا العالم.

انتهى القائد في لبنان، لأن صميم رسالة اللبنانيين اليوم هي أنهم لم يعودوا بحاجة إلى قائد، إلى من يرشدهم إلى ما يريدون، ويعرفهم بمنافعهم، ومن يفكر عنهم ومن يدلهم على خلاصهم. لا أقول أن اللبنانيين استيقظوا بل أقول أن صبرهم قد نفذ، وأنهم بالغوا قليلاً في تسامحهم وحسن ظنهم وإعطائهم المهل. انتهى القائد وانتهى معه حزبه وتنظيمه وأساطيره وسردياته وأيديولوجياته وكل وعود مستقبله. سيرحل القائد وسيأخذ معه عدة اشتغاله وفنون الشعوذة التي كان بارعاً في ممارستها في الميدان العام وأمام الناس. سيرحل القائد وسيرحل معه الخوف والقلق والشعور بالقصور والتقصير والخطأ، الذي برع في استثماره وتضخيمه في نفوس اللبنانيين، و كان مصدر سلطته وشرعيته.

لم يدرك هذا القائد أن احتجاج اللبنانيين لم يعد على أدائه، أو مطالبته بتصويب الأمور، أو بسبب الفقر والحاجة أو حتى كثرة الضرائب وفق ما صورته رموز السلطة الثلاث: باسيل والحريري ونصر الله. رسالة اللبنانيين هي "إرحل" بالصوت العالي والمعنى الشامل. المستهدف ليس الأشخاص، بل أصل اللعبة السياسية وقواعد التوزيع التي أنتجتها ورسختها جميع القوى السياسية الحالية منذ اتفاق الطائف، 8 و14 آذار، موالية ومعارضة معاً. فالرحيل هنا هو رحيل زمن بكل مكوناته وثقافته ولغته وأيديولوجياته وتضامناته ورموزه وقادته، الذي يمكن وصفه بأنه زمن القائد الكاريزمي بامتياز، وبداية زمن جديد لا مكان فيها لقائد أو لرمز، هو زمن المواطن الحر المالك لزمام أمره والصانع لمصيره، زمن الدولة العائدة إلى المجتمع بكل أطيافه بعد فترة اغتراب طويلة عنه وعنها.

الدينامية الجديدة تقول، أن جمهورية جديدة في طريق الانبثاق. نجح اتفاق الطائف في إنهاء حرب المتاريس لكنه نقل حرب القادة إلى الحياة السياسية، فأراد أن يحمي الطوائف إلا أنه حولها إلى إطر مشروعة لعلاقات زبائنية يديرها قائد ببراعة. ما ينبثق الآن هو روح جديدة بأفق مواطنة مختلفة تقوم على التعدد والتنوع والاختلاف والفرادة والابتكار، ولن تتهاون أو تتساهل بعد اليوم في اختزال مجتمع بفرد أو وضع مصير بلد بيد حزب أو قائد.
توقعوا مجتمعاً مختلفاً ووطناً آخر.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024