عن الغرام بالفخ الروسي

عمر قدور

الثلاثاء 2017/11/21
ربما هي محض مصادفة أن يتزامن مؤتمر المعارضة السورية في الرياض مع القمة الثلاثية التي تستضيفها مدينة سوتشي الروسية؛ القمة كما هو معلوم ستجمع الرئيس الروسي بوتين بالرئيسين التركي والإيراني، وستكون مكرسة للبحث في الملف السوري بعد تفاهمات أعلن وزير الخارجية لافروف عن إبرامها مع نظيريه التركي والإيراني في اجتماع أنطاليا. بينما يُفترض بمؤتمر المعارضة الخروج بتصور موحد لقوى ومنصات مختلفة المشارب والأهواء، بعد فشل محاولة سابقة استضافتها الرياض أيضاً، وقيل أن الفشل آنذاك يعود إلى موقف ما يُعرف بمنصة موسكو، وهي تحضر المؤتمر الحالي أيضاً من دون تغير في موقفها.

أمانة منصة موسكو لإسمها معروفة للجميع، فهي تمثّل الموقف الروسي بحذافيره، ووجه الخلاف بينها وبين الباقين في مؤتمر الرياض السابق أنها أصرت على عدم الإشارة مطلقاً إلى مصير بشار الأسد، وأصرت على اعتماد الدستور الذي وضعه بشار الأسد عام 2012. باختصار يمكن القول بأن منصة موسكو هي وديعة روسية في الرياض، وغايتها إما فرض التصور الروسي على مجمل المعارضة والبلد المضيف، أو إفشال المؤتمر وإعطاء ذريعة لموسكو وديمستورا للقول بأن تفكك المعارضة هو السبب بإفشال العملية السياسية.

وإذ نعلم أن المعارضة لا حول ولا قوة لها إزاء القوى الداعمة لها، وأنها تقبل الجلوس مع منصة موسكو إلى طاولة واحدة مرغمةً، فإن قبول هذا الوضع الشاذ يتعلق أولاً بالرياض التي أوكل إليها في مؤتمر فيينا تحضير المعارضة للمشاركة في جنيف. وستكون مغرية المقارنة بين لقائَيْ الرياض وسوتشي، إذ تحضر موسكو عملياً اللقاءين، بينما يغيب "أصدقاء" المعارضة عن سوتشي، ولا تجد إدارة بوتين حرجاً في المضي منفردة في تفاهمات إقليمية تضرب أساس عملية جنيف، بينما منصتها تقوم بالواجب نفسه في الرياض.

لقاء سوتشي ليس استكمالاً تقنياً لمسار أستانة، هو بالأحرى استكمال لمسار السياسة الروسية إزاء الملف السوري منذ بدء العمليات العسكرية الروسية. وفق هذا المسار تنسق موسكو مع العواصم الإقليمية الفاعلة، وتستبعد الأقل فاعلية أو أولئك الذين لا تتناسب مواقفهم مع سياساتها. للتذكير سنجد، بموازاة التنسيق مع طهران وأنقرة، تواصلاً لم ينقطع مع تل أبيب، ويمكن القول بأن غياب تل أبيب عن اجتماعات سوتشي تحكمه اعتبارات الحرج الإيراني "وبدرجة أقل التركي" أكثر مما تحكمه رغبة روسية، لأن الرغبة الروسية أصلاً هي لعب دور المايسترو مع القوى الثلاث التي تعتقد أنها الأهم في المنطقة، والأكثر تأثراً وتأثيراً في الملف السوري.

ما لا يحتاج فطنة عالية الانتباهُ إلى المقايضة بين موسكو والعواصم الثلاث، فهي سمحت لأنقرة بالتدخل المباشر مرتين، مرة لقطع إمكانية سيطرة الميليشيات الكردية على مجمل الشمال السوري، ومرة أخرى للإشراف على موقع تلك الميليشيات في عفرين من خلال المناطق المتاخمة لها في إدلب. وسبق لها أن أمنت الغطاء الجوي للميليشيات الإيرانية التي تقاتل مع النظام، فضلاً عن التنسيق بين البلدين في الملف النووي. أما تل أبيب فحصلت على ضمانات روسية بعدم اعتراضها إذا شاءت قصف مواقع تعتبرها خطراً على أمنها، مع ضمانات روسية بالحفاظ على هدوء الطرف السوري من الحدود مع إسرائيل، رغم وجود خلاف ينحصر في عرض الشريط الحدودي الذي تريد تل أبيب إبعاد الميليشيات الشيعية عنه.

بخلاف موقف طهران الداعم بشدة لبشار أتت هذه المقايضات بنتائجها، فتل أبيب أعلنت مرات عديدة أنها لا تتدخل في موضوع بقاء بشار، ما فُهم كل مرة أنها تحبذ بقاءه. حكومة أردوغان تراجعت نهائياً عن تصعيدها اللفظي إزاء تنظيم الأسد، واستعاضت عنه بتصعيد لفظي إزاء أكراد سوريا، وخلاله إزاء أكراد العراق في مناسبة استفتائهم على الاستقلال وما تلاه. أما التنسيق المتصاعد مع موسكو فتم التبرير له بموجات متلاحقة من التصعيد المتبادل مع الغرب، وحتى مع حلف الناتو كما حصل مؤخراً.

لعل قراءة هذه المعطيات تخفف من الاعتقاد السائد بقدرة الإدارة الأمريكية على إفشال موسكو متى تشاء، وهي قدرة تبقى موجودة إذا وصلت الأمور بين الدولتين إلى ما يشبه إعلان حرب، الأمر المستبعد حصوله بسبب سوريا، والمستبعد حصوله مع إدارة تحاصرها الاتهامات في شأن التواصل غير المشروع مع موسكو. لكنها أيضاً تعزز من الاعتقاد بأن موسكو لا ترى حاجة ماسة إلى شريك إقليمي عربي، وهي غير مستعدة لدفع أي ثمن لقاء مثل هذه الشراكة، ما يرسم علامات استفهام ضخمة حول زيارات العديد من المسؤولين العرب موسكو، أو حول العديد من الصفقات معها والتي يمكن اعتبارها هدية مجانية للاقتصاد الروسي المتعثر.

لن نعثر أيضاً على ملف آخر يجيز التكهن بأن حكومات عربية قبضت فيه الثمن لقاء التخلي عن الملف السوري، فالأوضاع الأخرى في الإقليم لا تخضع لنفوذ روسي. أي أن التنازلات المقدَّمة لموسكو في هذا الملف هي بمثابة رضوخ لها لا أقل، وعطفاً على وضوح السياسة الروسية وعدم تزحزحها يبدو كأن هناك غراماً بالوقوع في الفخ الروسي، أقله منذ مؤتمر فيينا حتى الآن. وربما يكفي للدلالة على الهوة بين المواقف أن تستطيع أنقرة حتى الآن استبعاد حزب الاتحاد الديموقراطي "الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني" من كافة مؤتمرات المعارضة بما فيها مؤتمر الرياض، على رغم ما يحظى به الحزب من حيثية تمثيلية في صفوف الأكراد، بينما تشير الأنباء إلى تمثيل منصة موسكو بأحد عشر مشاركاً في المؤتمر، وهو رقم لا يُعدّ كبيراً بالقياس إلى حجم المدعوين فحسب وإنما قد يدعو إلى الاستغراب أن يكون هذا حقاً عدد الأعضاء المنضوين فيها. لا يقلل من وجاهة المقارنة العلاقة التي تربط حزب الاتحاد الديموقراطي بتنظيم الأسد، فحال منصة موسكو وما تطرحه لا يضعها أبعد منه عن الأسد.

الحديث الشائع عن نجاح الدبلوماسية الروسية، أو عن دهاء صانعيها، يتفادى الإحراج فلا يلحظ الوقوع المتكرر في الفخ المكشوف ذاته، وبالطبع لا يلحظ سَوْق "الطريدة" للوقوع فيه.   
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024