تحولات لبنانية كبرى

مهند الحاج علي

الإثنين 2020/10/05
صحيح أن التشاؤم سيد الموقف اليوم في لبنان نتيجة العرقلة الحكومية، وتعثر المبادرة الفرنسية، وشلل الثورة وقواها، علاوة على بروز علامات انهيار في جدار دعم الوقود والغذاء والدواء. وهذا لا يُمكن نكرانه بأي حال، سيما لو حصل دفعة واحدة (رفع الدعم)، وأودى بما تبقى من أمن واستقرار في البلاد.

إلا أنه وسط هذا الجو المظلم، والتداعي الاقتصادي المتواصل، علينا أيضاً النظر إلى تحولات كبرى في لبنان والمنطقة، قد تنعكس إيجابياً على البلاد، على المديين المتوسط والبعيد.

أولاً، تراجعت قدرة الخارج على تمويل الوكلاء المحليين وصراعاتهم على الأراضي اللبنانية. مليارات الدولارات التي أُنفقت على الصراع في الداخل اللبناني، عسكرياً وسياسياً وأمنياً، على مدى العقود الماضية، تقلصت بشكل دراماتيكي، ولا يُعتقد بأنها آيلة للعودة، بل قد تنخفض أكثر. ومن شأن هذا التراجع في القدرات التمويلية أن يُخفف منسوب التوتر الداخلي ويفتح كوة في جدار الانتخابات (عام 2009، أنفق طرفا الانتخابات، أي 14 و8 آذار، حوالى الملياري دولار، وفقاً لتقدير مسؤول لبناني تحدث الى هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) حينها. أي تنافس سيحصل في ظل هذا الانفاق المرتفع؟

ثانياً، اقتصاد الريع السابق مات. لن يكون أقطاب السلطة الحاليين قادرين على توفير وظائف مؤلفة لأنصارهم في القطاع العام، ولا تجيير خدمات بالكم السابق، ولا فتح أبواب السرقة في المؤسسات الحكومية كما كان يحصل سابقاً. هذا لا يعني نهاية الفساد، بل انحساره، لأن أي اقتصاد خلال المرحلة المقبلة لن يتحمل قطاعاً عاماً بهذه الضخامة ولن يتيح لعمليات نهب كما حصل ويحصل خلال السنوات الماضية.

ليست المصارف قادرة على استقطاب ودائع جديدة لتسليمها الى الدولة اللبنانية لتبذيرها. هذا النموذج انتهى وليس قابلاً للعودة، ولنهايته انعكاسات سياسية بالتأكيد.

ثالثاً، ليس لبنان بعيداً عن التحولات في الإقليم من الأفكار الاسلامية والقومية العابرة للحدود، والتي استُخدمت لتبرير جرائم الأنظمة في سوريا والعراق، إلى التركيز على المصالح الوطنية والمحلية المُحددة. هذه العملية بطيئة لكنها تسير قدماً.

والنجف كمركز ديني، تُعبر عن هذا التحول، إذ باتت وبشكل متزايد تميل الى القوى الشعبية الرافضة للتدخلات الإيرانية والميليشيات الموالية لطهران. والحقيقة أن تحول النجف في هذا الاتجاه، يأتي اثر موجة احتجاجات وتبدل في المزاج الشيعي العراقي حيال الدور الإيراني. منذ غزو العراق قبل 17 عاماً، شهد العراقيون عمليات نهب منظمة للأحزاب الدينية، وحرماناً غير مسبوق من التنمية والخدمات. عشرات مليارات الدولار أُنفقت على قطاع الكهرباء، ولكن، ونتيجة الفساد المستشري، ما زال العراق يُعاني من نقص حاد في الطاقة.

بكلام آخر، فشل الإسلاميون بالحوكمة بالعراق، وباتوا يُمسكون بالسلطة والنفوذ من بوابة الميليشيات. والنجف تميل إلى المقلب الآخر اليوم، سيما بعد دعوتها لاشراف مراقبين دوليين على الانتخابات التشريعية المبكرة في حزيران (يونيو) العام المقبل. اثر ذلك، انتقدت صحيفة "كيهان" الرسمية المرجع الشيعي علي السيستاني، ما أثار ردود فعل ليست بالهينة.

في حال خسارة الإسلاميين الموالين لإيران في الانتخابات العراقية، وهو متوقع الآن مقارنة بالنتيجة التي حققوها عام 2018، قد يرسى توازن جديد في العراق، بمساعدة من النجف. ولهذا الدور انعكاسات على شيعة لبنان ومزاجهم، بعيداً عن الهيمنة الثنائية التي أسهمت في الانهيار الحاصل على أكثر من مستوى. 

تحتاج هذه التحولات إلى وقت كي تتبلور صورتها، لكنها بالتأكيد ستنعكس ايجاباً على لبنان وتفتح المجال أمام دخول قوى جديدة الى الساحة السياسية.

 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024