بحثاً عن حكومة مستحيلة

ساطع نور الدين

الجمعة 2018/08/24

العقد التي تواجه تأليف الحكومة الجديدة في لبنان محلية جداً. هذا صحيح حتى الآن، وفقط لأن الخارج لا يتدخل بشكل مباشر، على ما درجت العادة، وهو يترك للفرقاء اللبنانيين، أن يلتقطوا الاشارات الخارجية، ويفسروها حسب إجتهاداتهم وخبراتهم..ولأن ذلك الخارج لم يحسم أمر لبنان، وما إذا كان يفترض ان يكون أرض جهاد، تتطلب تصفية الخصوم وطردهم، أو أرض نصرة تسمج بتقاسم النفوذ.

 ثمة ما هو ناقص، وغير واقعي في آلية البحث الراهن عن حكومة جديدة: إذا كان النظام السوري منتصراً في الميدان، وإذا كانت إيران تواجه أقسى العقوبات الاميركية، وإذا صارت السعودية بلا حلفاء أو شركاء لبنانيين أقوياء، فإن الجدل المستمر منذ نحو ثلاثة أشهر حول الحصص والحقائب يبدو مثل مضيعة للوقت، ويؤسس لفراغ لا تملأه سوى الفتنة أو الفوضى.. لكنه في الجوهر يساهم في تحديد وجهة لبنان وخياراته السياسية في المرحلة المقبلة، التي لا تبدو مختلفة عما كان سائدا قبل العام 2005.  

ما بين التسلية والترفيه، يطرح سؤال جدي لا يملك أحد إجابة عليه حتى الآن، برغم الترحال اللبناني الى موسكو والانقطاع عن واشنطن (وباريس ولندن): هل بات يمكن تصنيف لبنان من حصة روسيا او من حصة أميركا في المشرق، أم أنه لا يزال محل نزاع بين الدولتين؟ التنافس ظاهر وواضح. وقد تجلى في سلسلة من العروض الاميركية والروسية للبنان، التي حققت بعض الاختراقات، لكنها لم تحسم النزاع، إذا جاز القول أن لبنان جدير بأن يكون حليفاً أو شريكاً لإحدى الدولتين.

الصورة العامة تبيح الزعم بأن واشنطن تملك الجو اللبناني، بينما تتمدد موسكو على الارض اللبنانية، وربما لاحقا في البحر. للاميركيين قاعدتان عسكريتان جويتان معروفتان في لبنان، فضلا عن حضور مؤثر في المؤسسة العسكرية وتنظيمها وتسليحها الذي لا يزال حكراً على أميركا. وقد مُنعت روسيا من التسلل في هذا المجال. وللروس في المقابل أكثر من قاعدة برية على الارض اللبنانية ينتشر فيها حلفاؤهم (وكلاء سوريا وإيران). وقد أضيفت اليها مؤخرا المراكز التي أنشئت على الحدود بطلب من موسكو لتنظيم عودة النازحين السوريين. كما تلقت روسيا الاسبوع الماضي، طلباً رسمياً ملحاً من لبنان لتشجيع شركاتها على المساهمة في إستخراج وتصدير النفط والغاز اللبنانيين من مياه المتوسط.

بإختصار، يبدو الآن ان السماء للاميركيين(ومعهم الاسرائيليون طبعا) وأن الارض للروس. وهو توزيع  للادوار وتقسيم للعمل أفرزته سنوات الحرب السورية، بطريقة حبية، ومن دون أي رغبة حاسمة من جانب واشنطن او من جانب موسكو في قطع الطريق على الآخر، او منعه من إكتساب مواقع في لبنان.. مثلما جرى في سوريا مؤخراً، حيث رسمت الغارات الجوية المتبادلة طوال العامين الماضيين خريطة الحدود بين الدولتين، وحصة كل منهما من حقول النفط والغاز والفوسفات السورية.

هذا التوازن الدقيق الذي تم التوصل اليه في لبنان، لا يعني ان واشنطن وموسكو أنهتا التنافس بينهما، بل سلمتا فقط بأنه لا حاجة ولا قدرة لدى أي منهما على إلغاء وجود المنافس..وإن كان يمكن التكهن بان أميركا قد تقرر مرة أخرى الخروج من لبنان والإقرار مجدداً أنه كان فناء خلفياً لسوريا، ويمكن أن يعود كذلك، تحت الرعاية الروسية للبلدين الشقيقين، إذا حصلت أميركا من موسكو ودمشق على الضمانات الكافية بعدم التعرض لأمن إسرائيل، وجبهتها الشمالية مع لبنان وسوريا.

لا قيمة للبنان بذاته. هو الان مجرد حديقة، إستراحة لا أكثر. لكن الحسم الذي يلوح به الروس في سوريا، والحسم الذي يلوح به الاميركيون ضد إيران، يمكن ان يفقد عملية تشكيل حكومة جديدة في لبنان بعضاً من طابعها المحلي، وبعضاً من شكلها السلمي الراهن.   

      

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024