صورة الممرضة: إنكار الموت

شادي لويس

الأربعاء 2021/01/06

الممرضة الجالسة القرفصاء على أرضية المشفى، بزيها الأزرق، في الركن، وكتفها مستند إلى الحائط في لحظة تهاوي الجسد، والجذع ينحني قليلاً إلى الأمام، فيما تضم الذراعان الركبتين إلى الصدر، بيد تقبض على الأخرى بتشنج منهك. يتكور الخوف على نفسه، والوجه المغطى بالكمّامة لا يكشف من تعابيره الكثير، لكن وضعية الجسد تفضح ثقل الرعب والعجز.

كثفت الصورة، محتوى فيديو مستشفى الحسينية (في محافظة الشرقية، في دلتا النيل)، وحالة الهلع التي ضربت وحدة العناية المركزة هناك. الأخبار التي تم تداولها عن انقطاع الأوكسجين عن مرضى الكورونا، ووفاتهم جميعاً أو الكثير منهم، ليست الأولى التي تأتي من مستشفيات عزل الكورونا. والقليل من تلك الأخبار، يمكن التأكد منه، فالدولة تنفي، والطواقم الطبية تخشى مغبة الحديث.


الموت هو الكلّية المطلقة، ولا حاجة للقول بأن البشر جميعاً فانون. وهو أيضاً الفردية المطلقة، فلا شيء أكثر منه خصوصية. وإن كان الدين يسعى إلى منح المعنى لموت الفرد في موت الكل، من المحدود إلى اللامتناهي، ومن الفاني إلى الأبدي، فالدولة، أي السلطة الأرضية، تفعل العكس، وإن كان للغرض نفسه أو ما يبدو أنه الغرض نفسه، أي ربط الإثنين. فتسبغ الدولة معنى على موت الكل من ميتات الأفراد، في تجميعها، كإحصاء، في دمجها في رقم أو نقطة على منحنى بشكل الجرس. معدلات الموت أمام معدلات المواليد، كقطبين لقيمة واحدة، هي إدارة الحياة بمعناها السياسي، مفهوم "السكان" يجملها كحاصل طرح الإثنين. عملية حسابية بسيطة لاقتصاد الطبيعة المخضعة وخسائر جوانبها المستحيلة على الترويض.

في سجلات الوفيات، وشهاداتها الممهورة بتوقيعات الأطباء والبيروقراطيين، يدخل الموت، أي المأساة فردية، إلى النظام الرمزي، المعمم جداً والموجز والغامض تماماً، لذلك يختزل في عدد وتاريخ وبضعة أختام ورطانة مصطلحات الطب والقانون. وهنا تكمن خطورة الاستعارة، فالأعداد لا تبخس تراجيديا الفقد الإنساني بالضرورة، بل ربما تحولها إلى حدث جلل وعام، لكن خطورتها الداهمة تكمن في إمكانية محو الرقم، تغييره والتلاعب به أو طمسه بالكامل. هكذا الواقعة المادية للموت يمكن إنكارها.

الإشاعات التي دارت حول اعتقال مصور فيديو مستشفى الحسينية، وحول معاقبة الممرضة إدارياً، نفتها مؤسسات الدولة. إعلام النظام ينكر انقطاع الأوكسجين، ثم يعود ليلوك الاتهامات السخيفة والمكررة لجماعة "الإخوان". البعض يشكك في صحة المقطع المصور، حتى مع الإعلان الرسمي عن معاقبة مدير أمن المستشفى لسماحه بتسجيله.

تتحول صورة الممرضة القادمة من كواليس الموت، إلى لوحة، يتم تداولها أكثر من الصورة الأصلية. ملامح مطموسة، وتفاصيل أقل، ضربات سريعة لفرشاة الفنان ياسين محمد، بخلفية ملطخة بالرمادي المقبض، سرير المريض/ة الموجود في الصورة يختفي من اللوحة، ما يبقى هو جسد الممرضة المتكور من الخوف، ككتلة صامتة بالأزرق، (بالصدفة هو لون زي السجن)، في وضع القرفصاء، الذي يشبه وضعية المساجين في لوحات ياسين الأخرى، المرسومة في المحابس التي تكرر دخوله إليها ثلاث مرات، لأسباب سياسية. الصورة المقتطعة من الفيديو أكثر تجريداً من الفيديو نفسه، واللوحة أكثر تجريداً من الصورة المأخوذة عنها، والمجرد أكثر عمومية، لم تعد هذه صورة للممرضة وحدها، بل الجميع في مصير قلة الحيلة والجزع. لكن تظل تلك لوحة للأحياء لا للموتى.

في "انقطاعات الموت"، يخبرنا ساراماغو بأن غياب الموت كارثة عامة، فالإقرار بفحواه هو شرط أساسي للإقرار بفحوى الحياة. لكن ما أوفر الموت اليوم، والكارثة هي إنكار قرائنه. تنفي الدولة الدلائل المجسدة لفائضه، الأرقام يتم إخفاؤها، شهادات الوفاة تزيف أسبابه عمداً أو من دون قصد. الإعلانات المتتابعة للوفيات في وسائل التواصل الاجتماعي، تأتي مراوغة، لا أحد يريد الاعتراف بالسبب، أو إعلانه، ربما هرباً من المواجهة، إنكار ضمني للموت نفسه، نفي مخيف، لأن من لا يأبه للموت لا يأبه للحياة أيضاً.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024