مصر في عالم ما بعد سبتمبر

شادي لويس

الأربعاء 2021/09/15
لم يكن سقوط البرجين سوى حدثٍ صغيرٍ في بلدٍ كبيرٍ، إلا أن المناعة المفترضة لمركز الإمبراطورية، ورمزية خدشها كانت تعني أن يضبط العالم مواقيته على الحادي عشر من سبتمبر/ايلول، ما قبله وما بعده. فالجرح النرجسي للهيمنة الأميركية على عالم أحادي القطب، كان يعني محو التاريخ وإعادة كتابته. للأنظمة العربية، لم يكن الهجوم هو النقطة الفارقة، فهي وجدت فيه فرصة لتأكيد أدوارها المعتادة أمام الغرب، بصفتها صمامات أمان تمنع مجتمعاتها من الانفجار. إلا أن ما رسم خطاً فاصلاً كان تبعات الهجوم.

بالنسبة للنظام المصري، كان إقدام الولايات المتحدة على غزو أفغانستان واجتياح العراق ولإسقاط نظامه بالقوة، حدثاً مزلزلاً. وحين انطلقت التظاهرات في شوارع القاهرة منددة بغزو العراق، وجد النظام المصري نفسه أمام معضلة، فمن ناحية أراد مبارك توجيه رسالة للولايات المتحدة مفادها أن المصريين غاضبون، وأن أحداً لن يرحب بوصول المارينز إلى الشرق الأوسط. والحال أن السلطات شجعت الاحتجاجات ضمناً. لكن، من ناحية ثانية، ومع انفلات التظاهرات وتحول هتافاتها ضد مبارك ونظامه، ارتبكت حسابات السلطة. في اليوم التالي ظهر صفوت الشريف على شاشة التلفزيون، يقترح تخصيص استاد مسور للتظاهر، كانت تلك لحظة حيرة لنظام بدأ يشعر بالتهديد. فالأميركيون ظهروا وقد فقدوا صوابهم، وأطلقوا العنان لمغامرات استعمارية يمكن لها أن تتوسع، أما الصور اللاحقة لتماثيل صدام المسحولة في شوارع بغداد، فأشعرت النظام بأن الغليان في الداخل ليس أقل خطراً من التهديد القادم من الخارج.

سيكون من باب الاختزال المفرط، نسبة الأحداث المتسارعة التالية في مصر إلى أثر 11 سبتمبر حصراً. فمنذ منتصف التسعينات، أبدى نظام مبارك المزيد من التسامح تجاه عمل منظمات المجتمع المدني، وإتاحة مساحات أوسع لوسائل الإعلام الخاصة. ارتبط ذلك الانفتاح المحسوب، بعوامل عديدة، كان من بينها سياسات نشر الديموقراطية الغربية التي تعززت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. أما على المستوى الداخلي، فالتصعيد الجيلي داخل عائلة مبارك وفي قيادات الحزب الحاكم، قاد إلى مزيد من السياسات النيوليبرالية، وتدشين عدد من الإصلاحات التجميلية لنظام الحكم بغية تسهيل عملية الاندماج في النظام الاقتصادي المعولم.

ومع هذا، فإن صعود حركة "كفاية" على سبيل المثال، وما تبعها من تغيير الدستور وإجراء أول انتخابات رئاسية تعددية في العام 2005، كان نتيجة سلسلة من الأحداث بدأت مع تظاهرات غزو العراق وارتبطت بتبعات الهجوم على البرجين، بطريقة مباشر، بل وبشكل واعٍ في أذهان من شاركوا في تلك الأحداث أو عاصروها. فتحت تهديد تغيير النظام بالقوة، قدمت سلطة مبارك المزيد من التنازلات المحسوبة والمترددة في مجال الحريات، لتخفيف ضغط الحلفاء الغربيين وتهدئة الغضب الشعبي المتزايد. وكان من شأن تلك التنازلات، ضمن عوامل أخرى كثيرة، أن تقود إلي اندلاع ثورة يناير.

قبل أسابيع قليلة، وضع الانسحاب الأميركي المهين من أفغانستان، نهاية صريحة لحقبة 11 سبتمبر. حتى نظام القطب الواحد، أضحى مشكوكاً فيه مع التراجع الأميركي، والصعود الصيني الدؤوب والمتواصل. مصداقية سياسات واشنطن الخارجية بشأن حقوق الإنسان تراجعت بعدما كشفت المؤسسات الأميركية نفسها عن هشاشتها وأضحت ديموقراطيتها محل شك. الهزيمة الفادحة للثورات العربية، ونتاجها المر، غلّب، لدى القوى الغربية، سياسات الاستقرار بأي ثمن، على التغيير.

النظام المصري، مطلق اليد في الداخل، بالكاد يتعرض لأي ضغط خارجي. الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، التي حرص السيسي على حضور احتفالية إطلاقها يوم السبت الماضي، ليست سوى تأكيد على ذلك. فهي لا تتجاوز مجموعة من الشعارات غير الملزمة، فيما يتواصل التنكيل بالمعارضين في السجون، بل وتتصاعد وتيرته. في الأسبوع نفسه عطّلت الإدارة الأميركية شريحة متواضعة من المعونة الأميركية، رهناً بملف حقوق الإنسان كما كان متوقعاً، والتكهنات تذهب إلي أن الإفراج عنها سيكون مشروطاً بقضية المنظمات الحقوقية وإطلاق سراح لائحة من المحبوسين.

تنتهي حقبة سبتمبر من دون أن يأسف عليها أحد. بعد عقدين من الفشل المريع، أُغلق الباب على أي طموح سابق في التعويل على الضغط خارجي لتحقيق الإصلاح، وعلى الأمل بحُسن النية في التغيير عبر العمل الحقوقي ومنظمات المجتمع المدني. وربما لهذا السبب، ومن باب السخرية أو لعلها الصدفة أن يعلن السيسي العام المقبل عاماً للمجتمع المدني.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024