كنيسة السيسي

شادي لويس

الثلاثاء 2019/01/08
افتتح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، عشية عيد الميلاد، أكبر كنائس الشرق الأوسط في عاصمته الجديدة، وفي حضور شيخ الأزهر الذي خطب من منبرها، كتفاً بكتف مع البابا تواضروس الذي ألقى بدوره كلمة من منبر "مسجد الفتاح العليم" حيث ترتفع المآذن بموازاة منارات الكاتدرائية الجديدة. يبتهج الأقباط -بحذر- بالبث التلفزيوني الحي لمراسم الافتتاح، فيما يتبرم بعضهم وغيرهم من المصريين من الاستعراض الإعلامي الذي لا يغير شيئاً من واقع المسيحيين في مصر، بل يرسخ منطق الهبة في التعاطي مع مطالبتهم بحقوقهم. 

يعرب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن سعادته بالافتتاح، ليثبت لقاعدته الانتخابية من اتباع الكنائس، صواب خياراته وتحالفاته الخارجية. يغسل النظام المصري سمعته في الخارج، بافتتاح كاتدرائية، كما بالإعلان عن تعاونه الوثيق مع إسرائيل وحماية أوروبا من سيل اللاجئين. الأقباط ورقة رابحة دائماً للنظام في الخارج، وفي الداخل أيضاً، سواء ببناء كنيسة أو حين تتعرض كنيسة للهجوم.

يتبرم البعض من هوس النظام بالإنجازات الخرسانية، والتشبث الباعث على الشفقة، بإعادة تمثيل دروس التاريخ المدرسية. فافتتاح قناة سويس جديدة لا يضاهيه شيء في البلاغة الركيكة، سوى إعادة تمثيل مشاهد ثورة 1919 والقساوسة يخطبون من منابر المساجد والأزهريون من منابر الكنائس. لا يحتاج الأقباط مبنى جديداً أو كبيراً، يقول البعض، بل يحتاجون قواعد قانونية منصفة، والتزاماً بها من جهة مؤسسات الدولة والعاملين فيها.

تبدو الاعتراضات في محلها، ويدعمها أصحابها بالقول بأن الكنيسة أكثر من مجرد مبنى. فالكلمة في النص المقدس هي الجماعة أو الحشد في أصلها اليوناني، وفي جذرها العبري هي المجمع أو المحفل، أي أنها جماعة المؤمنين أنفسهم، في فعل اجتماعهم وحالة احتشادهم. وهذا صحيح قطعاً. لكن الكنيسة أيضاً هي مجرد مبنى، بأقل درجات الكلمة رمزية، أي بجدرانها ومعمارها ونسب أبعادها. لكن، ومن أسرار الكنيسة القبطية السبع، أن الخمر لا يتحول دماً ولا الخبز جسداً سوى في هيكل الكنيسة، ولا تصح المعمودية سوى في "جرنها". هنا تبدو مفارقة المقدس القصوى وسر بلاغته المتناقضة، في تحويل الرمزي إلى "فعلي"، والعكس في الوقت ذاته، أي استحضار الروحي والمطلق في المحدود، وبالتوازي رفع الفاني إلى مقام الروحي وتقديسه. فلا جماعة للمؤمنين بلا مبنى، ذلك أن الروحي لا يكون سوى بحلوله في المادي.

لكن تلك الأحجية ليست مجرد رطانة لاهوتية، بل هى واحدة من الرواسب الأعمق للدين، ومن آثاره الغائرة في السياسة كما نعرفها اليوم. الأمّة، أي "جماعة المؤمنين" المعلمنة في صورتها الحديثة، لا تكون سوى بشبكة متراكمة من المؤسسات والممارسات ذات الطبيعة الرمزية. فعبر تحية العلم والنشيد الوطني وحلف القسم والاحتفالات الرسمية والأوسمة والأعياد القومية وطقوسها.. تحل روح الأمة في الدولة، وتكتسب وجودها السياسي والمادي. يظل قسم كبير من السياسة أسيراً للاستعراضي، ومتضمَّناً في الرمزي ومتجلياً في الصُّوَري. ولا يعنى هذا بأن السياسي في صورته تلك محروم من فاعليته، بل على العكس، تتأكد ضرورة الرمزي لتفعيل السياسة.

هكذا، فإن افتتاح أكبر كاتدرائية في الشرق الأوسط، ليس مجرد استعراض، أو رمزية بائسة يحاول النظام استغلالها في تهافت، حتى لو كان هذا كله صحيحاً. فالطقس الجديد الذى كرسه السيسي لنفسه منذ وصوله إلى منصبه الرئاسي، بحضور قداس عيد الميلاد في الكاتدرائية كل عام، ومراسم الافتتاح الأخير للكاتدرائية مع رمزيتها الفاترة، ورغم أغراضها الاستعراضية بل وربما الانتهازية، لا يخلو من ثقل وتأثير في ما يخص الأقباط وحقوقهم، لدى عموم المصريين ومؤسسات الدولة.

لا يعنى هذا بإن أوضاع الأقباط أفضل بأي حال تحت حكم النظام الحالي، أو أن الأخير يقدم لهم ضمانة مستقبل أفضل. فالمسافة بين الرمزي، والممارسات المؤسسية اليومية، تظل مرهونة بالنظام لا الدولة، ومختزلة في شخص الرئيس نفسه وعلى أساس تماهٍ كامل للكنيسة مع النظام. يظل الرمزي جوهرياً والاستعراضي فعالاً، لكن السياق الذي ينتج عنهما يمسي معياراً لعمق تأثيرهما والمدى الزمني للتأثير هذا. وفي حالتنا هذه، للأسف، تبدو أي مكتسبات مفترضة، محدودة، وفي غاية الهشاشة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024