عن الحرب الأهلية المصرية

ساطع نور الدين

الخميس 2015/07/02

ضاعت مصر. الدولة المركزية العريقة، القوية، تتهاوى. مؤسستها العسكرية وأجهزتها الامنية تفقد هيبتها، تتحول الى مليشيا تقيم حواجز القتل على الهوية. جمهورها يطلق هتافات دموية مصدرها أدنى الغرائز وأحطها..ومعارضوها يتزايدون مع كل ساعة، ويزدادون شراسة مع كل دقيقة.

ليس ما تشهده مصر الان حرباً أهلية بالمعنى المتعارف عليه في دول المشرق العربي، بين قوميات وطوائف ومذاهب، لكنها قد تكون أسوأ وأخطر من كل الحروب الاهلية التي يعيشها العالم العربي اليوم بوصفها لعنة، أو ممر إلزامي نحو التغيير المستعصي في كل مكان، والمستبدل بظواهر مليشياوية مرعبة وبأرقام خيالية من القتلى والجرحى والمهجرين.

منذ ان نصبت مصر رائدة في الوطن العربي، تبين أن أحد معالم ريادتها انها كانت السباقة الى فتح ذلك الصراع الحاد بين الجيش وبين الاسلام السياسي. كانت ثورتها الاخيرة في يناير العام 2011 توفر فرصة صلح تاريخي بين الجانبين، أكثر مما كانت تحمل وعداً بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، على ما كان يحلم ليبراليون ويساريون مصريون كثيرون، اخترقوا الصفوف العسكرية والاسلامية على حد سواء وتقدموا نحو الميادين المصرية الكبرى.. قبل ان يعودوا منها خائبين.

 الآن، انفجرت المواجهة الأكبر والأخطر بين طرفي الاستقطاب المصري المقيم منذ ان كانت الدولة بمفهومها العصري الحديث، ومنذ ان تشكل الاسلام السياسي في جماعة منظمة ومؤثرة تخرج الى العلن حيناً وتبقى في السر أحياناً، لكنها تحفظ لمصر موقعها المتقدم بصفتها البيئة الاولى والحاضنة الاوسع، التي توزعت الى حواضن موجودة في مشرق الارض ومغربها.. مثلما تحفظ لمصر خاصية فريدة كونها ترى في الجيش محوراً للدولة ومركزاً للمجتمع، يخدمه الجميع بتفانٍ غريب، ويقدسانه أكثر من أي مكون وطني آخر.

إنفجرت المواجهة بعد عامين من الانقلاب العسكري والامني على الصلح المؤقت والعابر مع الاسلام السياسي، الذي كان في طريقه الى الفشل المحتوم في أول اختبار علني لحكم مصر بواسطة صناديق الاقتراع. كان النزق دافعاً رئيسياً لانهاء تلك التجربة، وكان الغرور حافزاً مهماً لتحويل العامين الماضيين الى فضيحة للتاريخ المصري الحديث بكل ما للكلمة من معنى. الجيش والامن يريدان فقط الانتقام لمهابتهما واسترداد مكاسبهما السياسية والاجتماعية التي أهتزت في الايام والاسابيع الاولى من ثورة يناير 2011، وكادت تضيع نهائياً عندما فتحت مراكز الاقتراع للملايين من المصريين.

في العامين الماضيين، إنقض الجيش على الجميع من دون استثناء او تمييز بين الثوار والأشرار. قرر ان يصفي حساباته القديمة مع الاسلاميين على إختلاف تشكيلاتهم مستخدما السلاح والقضاء بطريقة استفزازية، أثارت حفيظة أقرب حلفائه العرب والاجانب، الذين نصحوه مرارا بالتروي والتخفيف من غلوه، على الاقل في التصفيات وفي أحكام الاعدام القياسية.. لكن الرئيس الذي كان ولا يزال يبدو أكثر تواضعا من المنصب الذي يشغله وأقل كفاءة من الدور المناط به، والقيادة العسكرية التي تبدو أقل دراية وفطنة من أن تدير مرحلة انتقالية حرجة، إلتزما الخيار الاسوأ، خيار المواجهة التي دخلت بالامس مرحلتها الاششد خطورة.

لا إرتباك ولا تردد في اداء الدولة المصرية هذه الايام. ثمة قرار حاسم من أعلى المستويات الى أدنى المراتب الشعبية بتقليد أشد الخصوم الاسلاميين عنفاً وتطرفاً، والتصرف بمنطق الثأر الذي يتعارض مع فكرة الدولة ومفهومها الأول، والذي يتنافى مع دورها في تهدئة المجتمع وإحتواء غضبه الآتي من الجهتين، جهة الموالين الموتورين، وجهة المسلحين المعتوهين الذين حانت لحظتهم لاستباحة دم خصومهم جميعاً.

فعل النظام العسكري في مصر طوال العامين الماضيين كل ما يساهم في تحويل المواجهة الحالية الى واحدة من أعنف الحروب الاهلية العربية، التي لا يمكن لأحد ان يكسبها، والتي قد تبدو معها الحرب الاهلية الجزائرية في تسعينات القرن الماضي، (التي يستلهمها حكام مصر الحاليون ويتوقعون نصراً مشابهاً لها..)، مجرد نزهة عابرة.. والتي قد تقرب الى حد ما من النزهة الدموية السورية او اليمنية او حتى العراقية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024