لبنان في مصر: الإحساس بالغدر

شادي لويس

الثلاثاء 2018/07/10

لبنان بلد منحل أخلاقياً، فعاقبه الله بالخراب. لجيل شاهد أخبار الحرب الأهلية في التلفاز، كان لبنان في مخيلة قطاع كبير من المصريين، هو مجلة الشبكة. ولم تكن المفسدة اللبنانية، شأناً محلياً أو عابراً، بل دوراً تاريخياً ومعمماً، فلبنان هو فساد العرب.

في أول سنوات المراهقة، أهداني جاري الذي يكبرني بعام، أحد شرائط الشيخ كشك. والرجل كان غاضباً كعادته دائماً، وكان غضبه منصباً على ما جلبته الحداثة من مفاسد، المسرح والكباريهات والصحافة والسينما وغيرها. ولا تأتي تلك الشرور من الغرب، بل من لبنان للأسف، كل الشرور تأتي من هناك. يجلب جورج أبيض معه من بيروت، لعنة المسرح، إلى القاهرة، ويحضر جورجي زيدان ورفاقه الصحافة أيضاً، بكل مفاسدها، وتؤسس نصف اللبنانية بديعة مصابني للخلاعة في مدينة الأزهر. ويدعو كشك مستمعيه إلى التأمل في أسماء رسل الشر هؤلاء، وليس صعباً أن ترى أنهم كلهم نصارى بالتأكيد. فلبنان ليس متفرنجاً فحسب، بل ومحلاً للشك دائماً لأنه ماروني.

لكن ليس هناك لبنان واحد بالطبع. فهناك لبنان فيروز، ولبنان صباح، ولبنان المقاومة، ولبنان الطائفية، ولبنان نانسي عجرم، لبنان إلياس مؤدب، ولبنان الشيعية، ولبنان مشروع ليلي، ولبنانات أخرى كثيرة. ففي المخيلة المصرية، يمكن للبنان أن يكون مشروعاً للحسد أو الغيرة، وفي الوقت ذاته موضوعاً للتعالي والتأفف الأخلاقي.

حين عاقبت المحكمة، اللبنانية منى المذبوح، بالسجن 11 عاماً خُففت إلى ثمانية، كان في ذهن قضاتها هذا كله. كانت المذبوح قد تعدت على تابوهات ثلاثة، لا تتهاون معها السلطة في مصر: الجنس والدين والسياسة. فاتهامها للرجال المصريين بالتحرش وسبّ المصريات، كان طعناً في أخلاقية المصريين وطهارة نسائهم المفترض أنها مصونة. وما زاد الطين بلة، أن يأتي ذلك الطعن من امرأة.. ولبنانية. أشارت المذبوح في مقطعها المصور إلى السيسي، وإلى صوم شهر رمضان، بطريقة مهينة، وهذا يبدو كافياً لحبسها في مصر، لكن أحداً لم يتصور أن يكون الحكم بكل تلك القسوة.

يعوض الحكم الثقيل، والذي غالبا سيتم تخفيفه لاحقاً، شعوراً عميقاً لدى قطاع واسع من المصريين بالمهانة والانسحاق. تبيع البلد كل شيء، لمن يدفع، من أول أراضيها إلى أندية كرة القدم. وفي الداخل، فإن ثورة كان شعارها "إرفع رأسك أنت مصري" تم سحقها تماماً، والاستعاضة عنها بصور المواطنين وعلى رؤوسهم البوط العسكري.

لكن الأمر لا يتعلق بالكرامة وحدها. ففي التعليقات على مقال للزميل أحمد شوقي علي في "المدن" بعنوان "منى مذبوح...الإهانة تلتهم التحرش"، تتعجب قارئة من رد الفعل المبالغ فيه بخصوص القضية، فيجيبها قارئ مصري بأن الأسباب كثيرة، لكن أولها شعور المصريين بالغدر، فلبنان هو أكثر دولة راعاها المصريون وكانوا مسالمين معها. لكن المعلق المصري لا يقدم دليلاً على المراعاة الاستثنائية التي قدمتها بلاده للبنان، وما الذي كان يمكن أن يحول المسالمة بين البلدين إلى حالة عداء، وكيف.. إلا أنه يعكس صورة دقيقة لمخيال المصريين عن علاقة بلادهم بالعرب.

فمصر كانت وما زالت ضحية عروبتها، وغدر العرب. فمع أن العالم كله يتآمر عليها، إلا أن خيانات العرب هي الأقسى، لأنها تأتي كطعنة من القريب. لعبت القطيعة العربية، بعد كامب ديفيد، والبروباغندا الساداتية المضادة، دوراً رئيسياً في ترويج عقدة الضحية لدى المصريين. لكن انهيار الوحدة مع سوريا، كان قد جاء قبلها، محملاً بأثقال من روايات الغدر والمهانة. ولم تخلُ النكسة من ترويج لنظريات المؤامرة، وتوزيعها على الجيران. وكانت الحرب المصرية في اليمن، تراجيديا خالصة، دفع فيها المصريون ثمن تضحياتهم، من غدر "الملكيات الرجعية"، وخيانات اليمنيين المتوحشين.

وبنى المصريون للخليجيين بلادهم وعلموا أولادهم، وكان جزاؤهم بالطبع تصدير الوهابية والبدوية إلى مصر. فأفسد العرب إسلام المصريين الوسطي الجميل، إما بتطرفهم الصحراوي أو بخلاعتهم اللبنانية. ولا ينجو بلد واحد من هلاوس الاضطهاد المصرية. ففي العراق، حارب المصريون مع العراقيين ضد إيران، وكان صدام يحبنا، لكن العراقيين أعادوا المصريين إلى بلادهم في نعوش طائرة. وفي الخيال الشعبي، لو نزل المصري في مطار العاصمة الجزائرية، التي دعمنا ثورتها، فإن الجزائريين سيفتكون به في الحال، فكل دول المغرب العربي، تكرهنا كراهية شديدة الدموية، ويكفي أن نتذكر شغب ملاعب الكرة.

ولا يتوقف الأمر عند مجرد تلاعب أنظمة سلطوية بمشاعر شعوبها، وخلق الأحقاد المتبادلة وتعميقها، للتغطية على خيبتها وانحطاطها. فللعقدة المصرية أصول تاريخية وثقافية أبعد. لدى مفكري النهضة المصرية، وفي سعيهم للحاق بقيم الحداثة والتقدم، كان نبذ الانتماء العربي والإفريقي، واحتقارهما، أساساً لتبني انتماءات متوسطية وفرعونية أو حتى الهويات العالمثالثية الاشتراكية والتقدمية. أما فريق مفكري الإحياء، والذين تبنوا انتماء إسلامياً أو عروبياً، فللكثير منهم كانت مصر مؤهلة لأن تكون مركز هذه الهوية وقيادة حراكها. وحين انقلب ذلك الطموح إلى سلسلة من الهزائم الفادحة، كان يجب أن يلام الآخرون على خيبات الأمل والمهانة.

أساءت مذوبح أدبها بالتأكيد، لكن، ولسوء حظها، أضحت كبش فداء لكرامة المصريين المهدورة، وذكورتهم الجريحة. كما تحولت إلى عبرة لتخويفهم من ذراع السلطة الطويلة في الوقت نفسه. وأضحى على لبنانية واحدة، أن تدفع الثمن لكل عقد الاضطهاد وهلاوس المظلومية المتراكمة منذ آجال، وأن تعوض المصريين عن كل ما لحق بهم من مهانات.. حقيقة ومتخيلة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024