إدلب بين القيصر والسلطان

بسام مقداد

الأربعاء 2019/08/21

يشبّه أحد الكتاب السياسيين الأتراك ، كما نقل عنه الموقع الروسي "Geopolitika"، العلاقات بين روسيا وتركيا ، بالعلاقة بين طائر وحيوان يتعاونان في تدمير قفير النحل أينما وجد ، ليأكل الطائر يرقات النحل ، ويأكل الحيوان ما تجمع به من عسل . يبحث الطائر عن القفير ولا يستطيع الإقتراب منه لخشيته من لسع النحل ، ويقود إليه الحيوان بالتنقل أمامه من غصن لآخر ، ليبلغا القفير ويدمرانه ويقيما وليمتهما على أنقاضه . ويقول الكاتب ، محمود برينتشيك، بأنه ليس المهم من هو الطائر في مثاله ومن هو الحيوان ، إلا أنه يسوقه للقول بأن العلاقات التركية الروسية تشبه العلاقة بين هذين المخلوقين ، اللذين لا يمكن أن ينتصرا في كفاحهما من أجل البقاء سوى بالعمل متضامنين معاً .

وبعد أن يقوم الكاتب بجولة تاريخية للدلالة على التشابه في التطور السياسي الإجتماعي بين الطرفين ، منذ إصلاحات القرن التاسع عشر ، مروراً بالثورات الكبرى مطلع القرن العشرين في كليهما والإصلاحات الإقتصادية الليبرالية في كليهما ، ليستنتج تشابهاً للتطور الإجتماعي في روسيا وتركيا في مطلع القرن الحادي والعشرين ، تماما كما كان عليه الأمر في عشرينات القرن الماضي . وهو يرى أن الدولتين تعانيان حالياً من الضغط الهائل ، الذي يمارسه الغرب عليهما ، وأن الأمن القومي لكليهما يواجه مخاطر شديدة الجدية . 

يستخدم هذا الإقتصادي التركي والبوليتولوغ هذا الإغتصاب الواضح للوقائع التاريخية ليتوصل إلى القول ، بأن إدلب والضفة اليسرى للفرات في سوريا تشكلان جبهة واحدة . وهو يرى ان الحفاظ على وحدة الأراضي السورية هو السبيل الوحيد لمعالجة المسألة السورية ، وأن هذه الوحدة هي نفسها وحدة الأراضي التركية، وكل منطقة سورية تطيح بهذه الوحدة، هي بمثابة منصة تستخدمها الولايات المتحدة  ضد روسيا وتركيا معاً. وإذ يعتبر أن الولايات المتحدة تساند هيئة تحرير الشام في إدلب و"الإرهابيين" الأكراد في شرق الفرات، يرى أن على روسيا وتركيا النظر إلى إدلب وشرق الفرات كجبهة واحدة ، لأن وجود أية من المنظمتين "الإرهابيتين" في إحداهما ، لا بد وأن يغذي شقيقتها في المنطقة الأخرى . ويرى ان القضاء على أية من المجموعتين يشترط القضاء على الأخرى ، ولن تتمكن روسيا وتركيا من التخلص من هيئة تحرير الشام ، دون التخلص من المجموعات "الإنفصالية الإرهابية" في شرق الفرات . 

ولهذا السبب يرى الكاتب ، أن القضاء على المجموعات الإرهابية في إدلب ، ليس مهماً بالنسبة لسوريا فقط ، بل هو مهم أيضاً لكل من تركيا وروسيا . والوضع الراهن في إدلب يلحق الضرر بعلاقات تركيا مع روسيا ، ويعزز مواقع عدو تركيا المتمثل في هيئة تحرير الشام وشركائها من حزب العمال الكردستاني. ويرى أن المجموعات الأخرى في إدلب عليها أن تلقي سلاحها مقابل العفو من دمشق ، وحينها سوف يكون من الممكن أخيراً فصل هيئة تحرير الشام عن المجموعات الأخرى ، والقضاء نهائياً على جميع بؤر الإرهاب بالتعاون بين كل من تركيا وروسيا وإيران وسوريا . وبموازاة ذلك سوف تعمل هذه الدول معاً على القضاء على البؤر "الإنفصالية الإرهابية" الكردية المتمثلة بحزب العمال الكردستاني في شرق الفرات .  

ويختتم الكاتب التركي كلامه عن إدلب والقضايا الأخرى في العلاقات التركية الروسية  ، بالحديث عن "تحالف تركي روسي استراتيجي" يمتلك أسساً راسخة ، وتدفع الحياة نفسها إلى اللقاء بين الطرفين ، اللذين لا يسعهما إلا أن يريا "كم نحن بحاجة لبعضنا البعض" . ويعتبر أن ضرورة التحالف الإستراتيجي بين الدولتين قد تخطت منذ زمن بعيد إطار العلاقات الثنائية ، واصبحت تطال مسألة الحفاظ على هوية المنطقة ككل ووجودها . 

من جهة أخرى ، وفي مقالة بعنوان "إدلب وجيوسياسة تركيا" نُشرت الشهر المنصرم في صحيفة تركية بارزة ، ونقلها الموقع الروسي المذكور أعلاه ، يقول ألكسندر دوغين ، الأيديولوجي السابق للكرملين ، أن تركيا تعمل في سوريا بموافقة صامتة من روسيا، التي تريد التوصل إلى شراكة استراتيجية مع أنقرة ، وإجبار الأكراد على الخروج من تحت عباءة إسرائيل والغرب والتقرب من دمشق . ويقول هذا المنظر لمقولة الإتحاد الأوراسي بدل الإتحاد السوفياتي ، أن إدلب والمناطق المحيطة بها هي المشكلة الرئيسية الآن في سوريا ، وهي التي تتسبب بأكثر التناقضات في صفوف الحلفاء ، خاصة بين روسيا وتركيا . ويرى أنه بعد حل مشكلة إدلب ، يمكن الإنتقال إلى المرحلة النهائية في حل المسالة الكردية ، والمطالبة بالخروج النهائي للقوات الأميركية من سوريا، ومن ثم وضع اللمسات الأخيرة على التوافق على الصيغة السياسية المقبلة لسوريا . 

وإذا كان الرئيس بوتين قد تحاشى ذكر تركيا في تصريحه من فرنسا بشأن حزم موسكو في دعمها "جهود الجيش السوري في القيام بعمليات محلية لتحجيم التهديدات الإرهابية" ، فإن إعلام الكرملين قد تحدث بدون مواربة عن "وقوف تركيا ضد مصالح روسيا في سوريا " ، وأن "تركيا بدأت تحارب ضد روسيا في إدلب" . تحت العنوان الأخير كتبت صحيفة "NG" ، الروسية تقول ، أن دمشق مهددة بحرب طويلة ، ليس مع المقاتلين فقط ، بل ومع أنقرة أيضاً . وتنقل الصحيفة عن جنرال روسي تصفه بالخبير قوله ، بأن تركيا سوف تنشط الآن أكثر في مجابهة هجوم القوات السورية في إدلب ، ويمكن توقع نشوب معارك حقيقة أكثر اتساعاً بين القوات السورية والتركية ، تؤجج المواجهة القائمة ، التي سبق أن انخرطت فيها القوات العسكرية الروسية . 

ويرى هذا الجنرال الخبير، أن ثمة مخرجين من الوضع القائم ، يتمثل الأول منها في تصعيد العمليات الحربية من أجل "تنظيف" إدلب من المقاتلين المتشددين ، ويتمثل الطريق الثاني في وقف العمليات العسكرية والمباشرة بالمفاوضات . لكنه يستدرك ليقول بأن روسيا قد انتهجت الطريق الثاني منذ سنوات في منطقة إدلب ، لكن  "من دون جدوى" ، وتستغل أنقرة الهدنة لدعم المقاتلين ، على قوله. وهو يعتبر أن ليس من أحدٍ في روسيا يرغب في الشجار مع أنقرة ، ولهذا تحارب موسكو التنظيمات المسلحة غير الشرعية ، وكأنها لا تلاحظ الأعمال العدوانية من جانب تركيا . 

من جانبها ترى صحيفة الكرملين "VZ"  أن تركيا بدأت تحارب مصالح روسيا في سوريا ، وأن من الصعب تفسير سلوك تركيا هذا من وجهة نظر المنطق . وتقول بأن تركيا تدرك أن هزيمة المجموعة الكبيرة من الجهاديين في شمال حماة وحول خان شيخون ، هي هزيمة حتمية ، ولذا تريد أن "تلتحق بالعربة الأخيرة من القطار" . لكن سلوكها في جميع الأحوال هو سلوك غير منطقي واستفزازي ، ولا ينسجم مع الإتفاقيات ، التي تم التوصل إليها سابقاً . وتنتهي الصحيفة إلى القول بأنها تأمل في أن مستوى التعاون على الأرض بين المراقبين الأتراك والروس متين لدرجة لا تسمح بالصدام المسلح مرة جديدة بين الجيش السوري ورتل عسكري تركي آخر . 

إن ما يجري في إدلب الآن ، وما يرافقه من حديث عن تحالف استراتيجي بين تركيا وروسيا ، وعن اتهامات متبادلة  بين الطرفين حول الإتفاقات ومن يخرقها ، هو ليس في الحقيقة سوى عملية تحسين لشروط تقاسم سوريا بين السلطان والقيصر ، أو كما قال الكاتب التركي أعلاه ، تحسين شروط التحالف بين الطير والحيوان في تدميرهما للقفير السوري ، وتقاسم عسله ويرقات نحله .  

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024