مصير اللقاح كالليرة

مهند الحاج علي

الإثنين 2021/01/11
لم نعد كمواطنين معنيين بالخطابات المتتالية للسياسيين اللبنانيين، ذاك أن الكلام بات مكرراً ورتيباً إلى حد الضجر. الكُتّاب اللبنانيون يعرضون غالباً عن تناول الوضع الداخلي، ومنهم من صار يُؤلف هذياناً في التبدلات الإقليمية والدولية وارتباطاتها المحلية المُتخيّلة. من يفتح المواقع الإلكترونية يُفاجأ ببعض الكتاب وقد تحولوا الى منجّمين يقرأون حركة الكواكب والنجوم ويتوقعون حروباً كونية ويربطون هذيانهم هذا بالحراك السياسي المحلي. وهذا ليس غريباً، إذ أن المصادر السياسية المعتادة للكتاب اللبنانيين، باتت في عالم مواز. 

بإمكان السياسي اللبناني أن يخترع ما يشاء اليوم، في ظل غياب أي رقابة أو حركة احتجاج (نتيجة الجائحة وغيرها من الأسباب). لم يعد هناك من ضغط على السياسيين، ولا ساعة خطر تدق. حتى العقوبات، بعد استهلاكها وقرب رحيل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لم تعد تهديداً. والساسة اللبنانيون اليوم فعلوا كل القبائح والارتكابات بحق الناس، دون أي محاسبة. أفلسوا نظاماً مصرفياً كاملاً وهدروا عشرات مليارات الدولارات من ودائع ومدخرات الناس، مقيمين ومغتربين. فجروا بإهمالهم وفسادهم نصف مدينة بيروت ودمروا حياة الآلاف فيها، وهجروا عشرات الآلاف. هرّبوا الأموال وهدروا المليارات، وما زالوا يسافرون في رحلات سياحية، أو يدلون بخطابات لا تمت للحقيقة بصلة على الإطلاق. 

من يُدقق في خطابات السياسيين واختراعاتهم اليوم، يشعر بأنهم يتحدثون الى أنفسهم. هناك في واقعنا ما يُشبه أفلام الرعب عندما يتحدث المجرم المتسلسل الى ضحيته المكبلة والمُحتجزة لشهور أو سنوات، وكأنه يتكلم مع نفسه، يخترع عالماً موازياً ويكيل الأكاذيب ويلعب أدواراً. داخل الضحية يقين بأنها أمام مجرم، لكنها لا تقوى على التكلم بعد كل ما تعرضت له. 

وزير الخارجية السابق جبران باسيل تحدث عن عدم ثقته بسعد الحريري، وكأن الأخير لم يكن شريكه في سنوات العهد الأولى. ألم تجمعهما علاقة حب، وبات يخال للواحد منّا أن الحريري ذاب في باسيل؟ لكن هذا التاريخ لا يهم. بإمكان أي سياسي لبناني اليوم أن يخرج الى العلن بأي قصة أو رواية للأحداث، وأن يُناقض نفسه في الخطاب ذاته وخلال دقائق معدودة. لا يهم شيء. ليس هناك جمهور، أو من يُدقق. الجمهور مات أو يموت أو يخشى الموت. يفتحون صفحات جديدة ويُمزقون أخرى قديمة، ولا مانع من أي شي. سعد الحريري في عطلة باريسية، ومستحقات موظفيه غير مدفوعة (ناهيك عن البلد المنهار اقتصادياً، ومهمته السياسية المُعطلة) وما المانع؟ وزير الصحة يظهر في حفل غداء مكتظ أو يقطع قالب حلوى أو يدبك ويُحمل على الأكتاف، ثم يدعو الناس الى الحذر ويُعاتبهم على الاختلاط. من يسأل ومن يُحاسب؟

حتى الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله بات يستحي من التحدث بالشأن اللبناني إلا عرضاً أو مضطراً، هو مختص بالشأن الإقليمي والصراعات الكونية بين الخير والشر، ولا شيء في جعبته عن قضايا محلية حقيرة.

ماذا تبدل منذ تفجير الرابع من آب (أغسطس) الماضي، إلى اليوم؟ كانت لدينا حكومة تافهة، وصارت اليوم لدينا حكومة تصريف أعمال تافهة. والانتقال الى تصريف الأعمال لا يُبدل شيئاً على الإطلاق، إذ أن الحكومة لم تُفلح في تمرير قانون وتطبيق خطة مالية. أعضاؤها ما زالوا يتعاملون مع مناصبهم وكأنهم أمام عدسات مجلة علاقات عامة أو شؤون اجتماعية، يظهرون على صفحاتها وهم بكامل أناقتهم. هم سيّاح في بلد ينهار. وفي هذا ظلم لبعض السياح الى بلاد فقيرة، إذ بينهم من يزور عشوائية أو يُحاول مساعدة الفقراء فيها.

وجزء مهم من هذا الوضع المريح لهؤلاء، مرده الأزمة الصحية. وهنا يبرز السؤال الآتي، لماذا على السلطة السياسية معالجة هذه الأزمة، وقد وفرت عوامل الراحة لها؟ هل من مصلحتها أن تعود التظاهرات والاحتجاجات وعمليات طرد أو اعتراض وجبات المسؤولين وعائلاتهم في المطاعم والأماكن العامة؟

طبعاً الإجابة هي كلا. السلطة السياسية ستُكمل جرائمها في قطاع الصحة أيضاً. ومن يتوقع وصول اللقاح وتوزيعه الشهر المقبل، هو نفسه من كان يُصدق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بأن الليرة بخير. مع هؤلاء القتلة المتسلسلين، لا الليرة بخير، ولا أنتم ولا صحتكم ولا صحة أحبائكم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024