حصاد "ذكرى سبتمبر"

شادي لويس

الأربعاء 2020/09/30
أعلنت النيابة العامة المصرية، يوم الأحد، إخلاء سبيل 68 طفلاً من المشاركين في "أحداث الشغب التي وقعت خلال الفترة الأخيرة"، بالإضافة إلى آخرين تم إيداعهم دوراً لرعاية الأحداث. يُعدّ البيان الذي صدر بهذا الشأن، التعليق الرسمي الأول على تظاهرات ذكرى "20 سبتمبر"، والتي دعا لها محمد علي، الفنان والمقاول المقيم في الخارج. والبيان الذي أصدره مركز دعم التحول الديمقراطي، في اليوم السابق، أشار إلى حوالى 400 موقوف، بينهم 40 طفلاً من محافظات عديدة، شملت العاصمة والإسكندرية والدلتا في الشمال، والصعيد حتى أسوان في أقصى الجنوب. لكن تلك الإحصاءات لا تمثل العدد الإجمالي للموقوفين، بل من حضر عنهم محامون أمام النيابة. الحصر النهائي لا يمكن تأكيده، كم من هؤلاء شارك بالفعل في تظاهرات وكم عدد من تظاهروا إجمالاً؟ وهل سقط قتلى في المواجهات كما أشيع؟ وكم عددهم؟ من العصي الوصول إلى أي من هذا، ولو بشكل تقريبي. لكن الأكيد، أن احتجاجات ولو صغيرة الحجم، وقعت بالفعل في أماكن متفرقة في أنحاء البلاد.

الدعوة لإحياء ذكرى تظاهرات "20 سبتمبر" العام الماضي تم تجاهلها بشكل كبير، فالحماس لمطلقها، محمد علي، كان قد خفت بعد التظاهرات الأولى، ودفعت الحملة الأمنية الشرسة التي واكبت دعاوى الاحتجاجات السنة الماضية، في التوقيت نفسه، إلى عزوف الكثيرين عن التعليق، إما خوفاً على سلامتهم الشخصية أو خشية تشجيع آخرين على مشاركة غير محمودة العواقب. واكتفى عدد صغير من الأحزاب والمنظمات الحقوقية بالتعليق لاحقاً على الأحداث، بالدعوة لإطلاق سراح المعتقلين وحماية الحق في التظاهر.

الأجهزة الأمنية أخذت دعوات الاحتجاج على محمل الجد، واستعدت لها بحملة مسبقة، استهدفت المارة في الميادين العامة ومراكز المدن بعلميات تفتيش واستجواب عشوائي. الاشتباكات المتفرقة بين الأهالي والشرطة، بسبب مخالفات البناء خلال الأسابيع القليلة الماضية، رفعت من توتر الأجهزة الأمنية وخشونتها. لكن هذا كله لم ينجح في منع التظاهرات. التغير في ديموغرافيا المشاركين وجغرافيا توزيع الاحتجاجات، كان مفاجئاً للجميع، النسبة المرتفعة للقصّر وصغار السن من بين المقبوض عليهم تستدعي الانتباه، وتركُّز الاحتجاجات في الأطراف والهوامش الريفية يبدو مفهوماً بسبب التضييق على الحضر والمراكز، لكن الأمر ما زال غير معتاد.

ردود أفعال النظام وأذرعه الإعلامية، جاءت متدرجة وتناقضت أحياناً، فالإنكار في البداية تبعته محاولة لنزع المصداقية عن التقارير التي تناولت الاحتجاجات. فقناة "اكسترا نيوز" كانت قد قدمت عرضاً لتصوير تظاهرة مزيفة، تم تنسيبها لقناة "الجزيرة" وقنوات أخرى، وقامت جميعها بإذاعتها بوصفها حقيقية. من ناحية أخرى، اعترف نادر سعد، المتحدث باسم الحكومة، في تصريح تلفزيوني، بوقوع تظاهرات بالفعل وبمشاركة ملحوظة من النساء والأطفال في أطفيح بالجيزة، لكنه وصفها بـ"الفئوية"، فدوافعها بحسبه تتعلق بأضرار لحقت بمنتجي الطوب الطفلي، وأضاف إلى ذلك وصفها بالـ"مشروعة" قبل أن يعلن عن حل الحكومة للأزمة بالاستجابة لمطالب المتضررين. لكن ذلك لم يكن التراجع الرسمي الوحيد، فالرئيس نفسه، في تعليق ضمني على الأحداث، وصف الدعوات الاحتجاجية بأنها "صيد في المياه العكرة" واستغلال "للمواقف الصعبة"، ليعود في النهاية ويقول إنه يستجيب لطلبات المواطنين عندما يجدها "مشروعة ومنطقية".

حتى الآن يبدو النظام ناجحاً في فرض برنامجه الاقتصادي ومتطلباته القاسية، بلا مقاومة تذكر، وما زال قادراً على قمع ردود الأفعال المحدودة فورياً وبشكل حاسم. تظاهرات ذكرى سبتمبر جاءت في الأغلب أقل عدداً، وأبعد من المركز، مقارنة بسابقتها قبل عام. الأحزاب السياسية والنشطاء ظلوا عملياً على الحياد، إما لتشكيكهم في دعوات التظاهر، مصدرها وجدواها، أو لعجزهم عن الفعل والخوف من التبعات. لكن تحول سبتمبر إلى موسم احتجاجي، رغم الدرجة العالية من القمع والتعتيم الإعلامي، وتواتر الاحتجاجات الصغيرة والمتفرقة مؤخراً، وكذا النظر في ردود الأفعال الرسمية التي تضمنت إقراراً بمشروعية بعض الاحتجاجات وضرورة الاستجابة لها، مع الاعتراف بصعوبة أوضاع المواطنين، فهذا كله يدعو إلى التساؤل عن مدى قدرة النظام على ضبط الأوضاع في المدى الطويل، وعما يمكن أن تقود إليه ليونة خطاب النظام مؤخراً: امتصاص غضب المواطنين؟ أم فتح الطريق أمام المزيد من الاحتجاجات؟
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024