الشتيمة الحيّة والتظاهرة الميتة

ساطع نور الدين

الأحد 2020/06/28
في البدء كانت ثورة. صارت فورة، ثم أصبحت حراكاً، قبل أن تتحول إلى احتجاجات متفرقة، حتى استقرت عند كونها مهزلة. الخط البياني المنحدر الذي رسمته طوال الأشهر التسعة الماضية، لا يمكن أن يُفسر بأي من علوم السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد.. ولا يمكن أن يقارن بأي من تجارب الشعوب والأمم التي ثارت على ظالميها وقامعيها وسارقيها.

في البدء كان الخطأ. لا في استخدام المصطلح، بل في تحديد الطموح. لم يكن الشعب يريد"إسقاط النظام"، بل كان يود التعبير عن غضبه من رموزه، من معظمها. كان الطابع العابر للحدود الداخلية بين الطوائف والمذاهب، إنجازاً، ولا يزال. وكان رفع سقف الحرية إلى حدود الشتيمة "المقدسة"، أعلى درجات التحدي.. وأدناها في آن معاً.

والحال أن تلك الشتيمة صارت تختصر الصراع الذي لم يبق من عنواينه سوى الأخلاق والقوانين، وكلاهما يحتمل أكثر من تفسير وتحليل. حتى "المؤامرة الخارجية" المزعومة سقطت من الجدال. وحتى الدولار الأميركي الذي كان ولا يزال سلاحاً فتاكاً، خرج سالماً من المواجهة، وتحول إلى ورقة نادرة الوجود.. وعديمة الأثر في الشارع.

الشتيمة معيبة، وهي فاضحة للسلطة التي ترد عليها بعقوبة السجن، بدل أن تضعها في خانة حرية التعبير المفرط، وترد عليها بمثلها. لكنها فاضحة أكثر للجمهور الذي لم يعد لديه سوى لسان سليط ومفردات سوقية يرسلها عبر الأثير.. كأنه، في لاوعيه، يستغيث، يطلب النجدة من شركائه السابقين في التظاهر الذي انتهى إلى بضع عشرات أو مئات من الحالمين.

خلف ذلك السلوك، غير السويّ، تتخفى اليوم حالة عصية على الإدراك: الفراغ الملموس في السلطة، بما هي إدارة للشأن العام، وليس فقط كضابط للأمن، يقابله فراغ أسوأ للساحات، التي حشدت يوم 20 تشرين الأول ما يقرب من مليوني إنسان، لإسباب أقل أهمية وخطورة مما هو عليه الوضع اليوم.. الأفق مسدود أمام الجميع، لكن الصراع مفتوح، وغير خاضع، لسوء الحظ، لأي معايير أو ضوابط أو خطط سابقة، لبنانية أو خارجية.

قطع الطرقات الذي كان في البدء سلاحاً فعالاً، يستعير تجارب جميع الشعوب الغاضبة، لا يسد الفراغ. صار عبئاً ثقيلاً. لا يمكن التسامح معه، طالما أنه ليس جزءاً من احتجاج واسع النطاق، من تظاهرة بعشرات الآلاف على الأقل، ينضمون إلى الشبان القلائل الواقفين على طرقات الرينغ أو الجية أو طرابلس أو المصنع..

من دون تلك التظاهرة المنشودة، الأسبوعية في الحد الأدنى، التي ترفع شعارات محددة وتتمسك بمطالب دقيقة، موثقة، جامعة، يتردد صداها في مختلف المناطق.. يتعمق الفراغ، ويقترب البلد بسرعة أكثر من المزيد من العنف الاجتماعي (الطبقي)، وليس العنف الأهلي(الطائفي أو المذهبي) الذي تزعم السلطة أنها تخشاه، وتعمل جاهدة لتفاديه، مع أنه ليس في بال أحد، لا في الداخل ولا في الخارج.. رغم الاشتباه بأن الدولار الاميركي هو فتيل الانفجار.

من دون ذلك الشكل الطبيعي من التعبير الملحّ عن الغضب الشعبي المتزايد، لن يسد الفراغ سوى الفوضى. السلطة التي فقدت السيطرة على أحوال البلد وأمواله، دخلت في حالة غيبوبة، وهي تحتاج إلى صدمة قوية.. إذا لم تأت من الساحات، من الشارع، فإن مصدرها الآخر سيكون غير سارٍ لأي من اللبنانيين.

الشعب اللبناني، أو ما يزيد على 52 بالمئة منه، هو معارض، غاضب، خائف، من دون أدنى شك. وقد ثبُت في الشهور التسعة الماضية، وفي الأيام التسعة الماضية أنه لا يعرف التعبير عن مشاعره بطريقة صحية، غير بدائية، ولا يعرف تحديد مطالبه وأولوياته. لكن الاعتقاد، الصحيح إلى حد ما، بأنه ليس لرموز السلطة والسياسة من بدائل متاحة، يفقد تلك الغالبية المعارضة إحدى أهم أدوات الضغط والتأثير، ويسرع موعد الخراب، الآتي على عجل.   

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024