وداعاً تلازم المسارين

مهند الحاج علي

الجمعة 2020/10/02
إعلان اتفاق الإطار للتفاوض على ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، يحمل أبعاداً أكبر من مجرد خطوة في مسار متعثر ويتسم بالمماطلة. ذاك أن ملف التفاوض اللبناني-الإسرائيلي كان على مدار العقود الماضية، عنواناً للتدخلات الخارجية في الشؤون اللبنانية، وأيضاً لتغليب الساسة التابعين، مصلحة الخارج على المصلحة الوطنية. في هذا الإطار، كان شعار "تلازم المسارين" في تسعينات القرن الماضي وما بعدها، عنواناً لهيمنة النظام الأسدي على لبنان وقراره في هذا الشأن، ما فتح الباب أمام إبقاء السلاح بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان عام 2000. ألم يكن أجدر بلبنان حينها ترسيم الحدود والوصول الى حل نهائي لهذه القضية مع الجانب الإسرائيلي؟ نعم، ترسيم الحدود جاء متأخراً، ليس بسبب تعنت الجانب الإسرائيلي، بل لأن المصلحة اللبنانية في هذا الشأن كانت رهينة لدى سوريا وايران وممثلي مصالحهما في الداخل اللبناني. ولكن في الوقت نفسه، أن يأتي هذا الجهد متأخراً أفضل من عدم حصوله على الإطلاق، وحدوثه قد يؤشر الى مرحلة جديدة في التعاطي مع هذا الملف المُفخخ. كي يحدث ذلك، على ترسيم الحدود أن يُربط بمفاوضات لوضع حد للنزاع من خلال تفعيل تدريجي ضمن جدول زمني للاتفاقيات الموجودة أصلاً.

طبعاً، ليست هذه دعوة لاتفاقية سلام مع الجانب الإسرائيلي، بل من أجل تفعيل اتفاقية الهدنة بين الطرفين، والتي وُقعت في 23 آذار (مارس) عام 1949. 

وفي هذه الاتفاقية بنود تضمن أمن الجانبين، وفيها تعهد عام بعدم اللجوء إلى القوة العسكرية لتسوية قضية فلسطين، والامتناع عن الأعمال العدائية أو إعدادها أو التهديد بها. عملياً، تضع الاتفاقية حداً بين التطبيع والسلام والكامل، وبين العنف المدمر واللاأمن والنزاع المتواصل، وتفصل لبنان عن الكفاح المسلح في الداخل الفلسطيني (وهو حق مشروع للفلسطينيين على أراضيهم). 

اللافت في هذه الاتفاقية أنها أفضل من القرار 1701 المُجحف بحق السيادة اللبنانية، ويُقسم المهام فيها بين الجيش اللبناني من جهة، وبين قوات اليونيفيل من جهة ثانية. وعلى الجانب الإسرائيلي، لا قوات أجنبية على الإطلاق، بل يقتصر وجودها في لبنان فحسب.

في المقابل، ينص البند الثاني من اتفاقية الهدنة على تحديد القوات العسكرية على الجانب اللبناني بكتيبتين وسريتين من المشاة (1500 ضابط وجندي) وبطارية ميدان واحدة مؤلفة من أربعة مدافع، وسرية واحدة مؤلفة من 12 سيارة خفيفة مصفّحة مسلحة بمدافع رشاشة، وست دبابات خفيفة مسلحة بمدافع خفيفة (20 عربة). والاتفاقية تحصر هذه القوات والمعدات جنوب خط القاسمية-النبطية التحتا-حاصبيا.

على الجانب الإسرائيلي، وفقاً للبند الثاني، يحق لإسرائيل فقط حشد كتيبة مشاة واحدة، وسرية مساندة واحدة، مع ستة مدافع مورتر، وستة مدافع رشاشة، وسرية استطلاع واحدة، مع ست عربات مصفحة، وست سيارات جيب مصفحة، وبطارية مدفعية ميدان مؤلفة من أربعة مدافع، وفصيل من مهندسي الميدان، ووحدات خدمة كالتموين والمعدات، بحيث لا يتجاوز عددهم 1500 ضابط وجندي. 

بكلام آخر، حققت اتفاقية الهدنة ندية في التعاطي بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي، من دون تطبيع ولا قوات دولية ولا من يحزنون. كان في الفريق اللبناني المفاوض ضابطان في الجيش، مثّلا المصالح الوطنية فحسب، ووضعا شروطاً على أساسها.

حصيلة تفعيل هذه المعاهدة، ستتضمن تطبيقاً للقرارات الأممية السابقة. ستنتشر قوات محدودة من القوات المسلحة اللبنانية على جانبي الحدود، مع مواصلة الأمم المتحدة توفير قناة اتصال لخفض التوتر ومعالجة الخلافات.

في موازاة ذلك، يُواصل لبنان دعم الحقوق الفلسطينية عبر القنوات الدولية ومن خلال موقعه في الجامعة العربية والمنظمات الأممية، فيما يرفع القيود المُجحفة بحق اللاجئين الفلسطينيين على أراضيه.

لم يعد لبنان يحتمل المغامرات والأجندات الخارجية، وقد دفع أثماناً باهظة نتيجتها، وبات المطلوب وضع سياسة واضحة لا تحتمل اللبس، ولا سلاح فيها سوى للجيش والقوى الأمنية الخاضعة لمؤسسات الدولة.

صحيح أن هذا الحل لا يبدو واقعياً اليوم في ظل توازن القوى داخل البلاد، لكن سلسلة الأحداث المأساوية المتتالية خلال السنة الماضية، تدل على ضرورة التغيير الجذري وحتميته، وإعلان اتفاق الاطار التفاوضي ليس سوى بداية لسلسلة تغييرات لا يبدو أنها ستقتصر على لبنان فحسب.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024