مجتمع منزوع اللذة

شادي لويس

الأربعاء 2020/09/02
الأسرة هي المجاز المفضل للسلطوية، الوطن هو الأم، الحاكم رب الأسرة أو كبيرة العائلة في صيغة أكثر عشائرية، المواطنون أطفال وأحياناً رضع يحملهم جنود مفتولي العضلات في لوحات إعلانية على الطرق السريعة. الأسرة، علاقة قدرية، لا يمكن مراجعتها أو تغييرها أو إعادة ترتيبها. تلخص الأسرة القيم التي تفضلها الأنظمة السلطوية، الوفاء المجاني أو الإجباري والتضحية والتراتبية الراسخة والواجب والاستدامة.

"الخاص هو سياسي".. ليس شعاراً نسوياً فحسب، فالسلطة تسيس الخاص بالضرورة، حتى لو ادعت غير هذا، من قوانين الأحوال الشخصية إلى حملات "تنظيم الأسرة". هنا الأسرة ليست مجازاً، بل مجالاً مادياً لعمل قوى السياسة، الأسرة الأكبر من أن تكون فرداً والأصغر من أن تكون جماعة، تمحو الفردية والجماعة معاً. فككت الحداثة كل رابطة اجتماعية ممكنة، عمداً، مبقية على الحد الأدنى من صورها، أي الأسرة النووية. في مطلع القرن العشرين، جاءت الأنظمة الشمولية كرد فعل على الحداثة وامتداد لها، كتعويض عن صدمة الفقد. الأمّة والطبقة والشعب المختار والعرق النقي بدائل فرضت من أعلى، وأُجبرت الأسرة الصغرى على التماهي مع مجازها السياسي، أو بالأحرى الذوبان فيه. تكمل السلطوية ما بدأته الحداثة، تفكك رابطة الأسرة، وباسم الأسرة نفسها.

من ألمانيا النازية وشموليات الكتلة الشرقية، إلى ديكتاتوريات دول ما بعد الاستقلال، تركزت البروباغندا حول صورة الأسرة السعيدة، وفي الوقت نفسه مجدت أجهزة القمع الوشايات الأسرية، وشاية الأبناء بآبائهم عل وجه الخصوص. العقوبات الجماعية بحسب قرابة الدم، لم تكن حدثا استثنائياً، وفي وسط هذا كانت صورة المرأة الممشوقة والمحتشمة هي واجهة عالمٍ خالٍ من الإيروتيكية. المرأة الجديدة، الأم الباسمة دائماً والعاملة ذات الملامح الجادة والثورية حاملة السلاح، المرأة التي تمثل على الجداريات في أوضاع بطولية إلى جانب الرجال أو وراءهم بقليل، تجسيداً لعالم مثالي، مجتمع نقي منزوع الرغبة.

في مصر اليوم، حملات الدفاع عن "قيم الأسرة"، والشراسة التي يبديها الأمن في تنفيذها، ليست حدثاً عابراً، ولا مجرد ميل محافظ لنظام مرجعيته أبوية عسكرية. بل هي عنصر أساس في بنيته السلطوية. "مصر اللي كشفت ضهرها وعرت كتفها" بحسب الرئيس، لا تستدعي الحماية فحسب، بل تستحق التأديب أيضاً. عبارة الرئيس مجاز بالطبع، لكنها ككل مجاز تؤكد صورتها الأصلية. لا تكتفي الدولة باستهداف ما تراه تهديداً للأسرة، الفتيات "المتهتكات"، المثليين، والوسائط والمنصات التي توفر إمكانية للتواصل بعيداً من ضوابط السلطة الاجتماعية التقليدية. ففي قضية "الفيرمونت"، تتحرك النيابة متأخرة، لكنها تنجح في إلقاء القبض على معظم المتهمين بالاغتصاب الجماعي، ثلاثة هاربين يُقبض عليهم في لبنان. سريعاً ما تنقلب القضية رأساً على عقب، تصبح الشاهدات محل اتهام، والضحية أيضاً بشكل ضمني. تسريبات تظهر لفيديوهات وصور "خارجة" لهن، وسائل الإعلام تروج قصصاً عن "شبكات شذوذ ومخدرات" و"حفلات جنس جماعي" وراء الواقعة، بل وكذلك إشارات لمصابين بمرض "الإيدز". المجلس القومي للمرأة، الذي شجع وحض الضحية على التوجه للنيابة العامة، يبعد نفسه عن القضية، ويرفض التعقيب على سيرها طالما أضحت في يد العدالة.

تقوم المؤسسة الأمنية بتشويه الضحايا نيابة عن الجناة هذه المرة، جريمة شرف رمزية باسم الدولة لمحو العار الذي جلبته الضحية على نفسها. ما يكتشفه رجال السلطة في ملابسات "قضية فيرمونت" هو عالم تتناقض صورته مع مجاز الأسرة، حفلات غنائية وخمور وعلاقات حرة بين الجنسين، عالم يجب أن يعاقب فيه الجناة والمجني عليهم على حد السواء. تبقى الصورة النموذجية للأسرة والوطن، كما يراها الرئيس، وقورة متفانية ومتقشفة، الطلبة يذهبون إلى جامعاتهم على الأقدام، والثلاجات فارغة إلا من زجاجات الماء، والجميع يمارس الرياضة، أسرةٌ غايةُ أفرادها جميعاً هي الإنتاج.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024