يهود أميركا وإسرائيل: أزمة ترامب

أحمد مغربي

الأربعاء 2018/11/28
كشفت مقتلة كنيس بيتسبرغ، شرخاً عميقاً في علاقة يهود أميركا مع الشعبويّة المؤيّدة للرئيس دونالد ترامب، إذ تضمّ صفوفها مروحة من قوى معادية للساميّة، تعلن صراحة معاداتها ليهود أميركا وترى أنهم يتلاعبون بأميركا، خصوصاً عبر "نفوذهم" المالي، وتأييدهم المهاجرين.

وتذكيراً، كانت مقتلة كنيس بيتسبرغ، سابقة في استهداف يهود في مكان عبادة، ما يملي بداهة التفكير في سبب ذلك الحدث وخلفياته وإملاءاته أيضاً. ولأسباب متنوّعة، غاب عن العرب التقاط ذلك الخيط الذي ربما يُترجَم في منطقتهم بتخلخل في العلاقة بين إسرائيل فائقة التأييد لترامب (في لحظة تحولها إلى القوميّة الدينية، وابتعادها عن التيارات "العلمانية" في بنيتها السياسية)، وبين يهود أميركا الذين باتوا في مرمى استهداف الشعبويّة الترامبية، بل وصولاً إلى الرماية بالنار حرفياً في مقتلة كنيس بيتسبرغ. ولعلها لحظة احتدام تناقض، ربما كان يتنامى بوتيرة متسارعة، كما سيرد لاحقاً.

الأرجح أن كثرة من العيون العربيّة والإسلامية التي تراقب المشهد السياسي في أميركا، تنشد إلى الخطوط الكبرى فيه، مثل انتخابات الكونغرس النصفية التي شهدت سقوط سيطرة الحزب الجمهوري على مجلس النواب، واستمرار توازن نسبي بينهما في مجلس الشيوخ، وصعود النساء في تلك الانتخابات من الحزبين، مع اكتساحها الفواصل التقليدية بين الحزبين الكبيرين، وتصاعد التعصب وخطاب كراهية الأجانب، والتأزم بين الهويات الدينية والإثنية وغيرها. وكذلك ربما بدا بديهياً الاهتمام بمسائل بارزة مثل "الحرب" مع الصين، وتخلخل حلف الأطلسي، والموقف من المهاجرين، والقافلة الآتية من أميركا الجنوبيّة إلى الحدود مع المكسيك، والتأثيرات السلبيّة لبرنامج ترامب الاقتصادي (خصوصاً الإعفاء الضريبي الواسع)، والعلاقة المتشابكة مع روسيا الممتدة من تحقيق مولر بشأن تدخلها في انتخابات الرئاسة الأخيرة لتتصل مع معظم الخريطة الجيوسياسيّة والاقتصادية العالمية حاضراً، إضافة إلى الصراع العربي الاسرائيلي، إيران واليمن ودول الخليج العربي وغيرها. هناك قائمة طويلة من العناوين في المشهد السياسي الأميركي التي من شأنها أن تشد اهتمام المراقب العربي والاسلامي.

دولار التطرف ونجمة داوود
في ثنايا ذلك البحر المتلاطم، ربما يغيب عن العيون رصد خيط رفيع، هو التخلخل المرشح للتصاعد بين يهود أميركا من جهة، وتيار الشعبويّة المساند للرئيس دونالد ترامب من الجهة الثانية. وبديهي القول بأن مقتلة كنيس بيتسبرغ في 27 تشرين الأول 2018، هو حدث له أبعاد متشابكة، بل أن الكثير منها يتصل بالشأن الداخلي الأميركي، خصوصاً قوانين حمل السلاح وتجارته، وظاهرة المليشيات الأميركية المسلحة، وتصاعد أعمال العنف المسلح ومقتلاته، وانقسام الداخل الأميركي في الشارع والمؤسسة السياسية وغيرها.

في المقابل، ربما يفيد الالتفات إلى تلك العلاقة المضطربة بين الشعبوية ويهود أميركا، لوضع اليد على خيط سياسي غير مألوف في العلاقة بين إدارة رئاسيّة ويهود أميركا. ومن المستطاع البدء من موقف "رابطة معاداة التشهير" (الإسم باللغة العبريّة هو "بناي بريث" ومعناه "أبناء العهد")، من مقتلة كنيس بيتسبرغ. إذ تشتهر الرابطة بمتابعتها التفصيلية لما يتصل بشأن يهود أميركا، بل ربما يؤخذ عليها أحياناً ميلها إلى تضخيم كل ما يمكن إدراجه ضمن معاداة السامية إلى حدّ ملامسة الحق في التعبير عن الرأي. وعلّق رئيس الرابطة على نقاشات راجت بقوة إبان الحملات الانتخابيّة الرئاسية في 2016 في السوشيال ميديا، بالقول: "صار طبيعيّاً ومسموحاً الحديث عن مؤمرات اليهود للتلاعب بالحوادث، أو ممولين يهود يسيطرون بطريقة ما على مسارات الأمور"!

لم تأت تلك الكلمات الصادمة من فراغ، بل عبّرت عن مجريات قاسية بين تيارات الحزب الجمهوري، (تذكيراً، تضم صفوف الحزبين الكبيرين مجموعات سياسيّة متنوّعة)، وهي تفاقمت تماماً مع صعود الشعبويّة الترامبيّة فيه. وأثناء حملة انتخابيّة في 2016، عقد ترامب لقاءً مع "تحالف اليهود الجمهوريّين" الذي أبلغه أنه لا يساند ترشيحه للرئاسة. وعلّق ترامب على ذلك فوراً بالقول: "السبب في عدم تأييدكم لي هو أني لا أحتاج أموالكم"! وتضرب كلماته على عصب رائج في الشعبوية، يتهم اليهود باستعمال الأموال للتلاعب والتأثير السياسي، بل أنها أيضاً جزء من عقلية "المؤامرة" وهي رائجة في مليشيات أميركية عديدة.

ورافقت الحملة الرئاسية لترامب، مشاهد متنوّعة من العداء للسامية. إذ تضمنت حملة لمؤيدي ترامب، وإطلاق سيول من التغريدات ضد هيلاري كلينتون مرفقة بصور لدولار وُضِعَ عليه ختم له شكل "نجمة داوود" السداسية. وفي "تشارلوتسفيل" (صيف 2017)، سارت تظاهرة مؤيّدة لترامب حمل فيها "النازيون الجدد" أعلاماً فيها صورة الصليب النازي المعكوف الشهير، واعتدوا على أنصارٍ للحزب الديموقراطي، ما أدى إلى مقتل شابة أميركية. وعلّق ترامب على ذلك بأن قال مشيراً إلى "النازيّين الجدد": "هناك أيضاً أناس طيّبون بينهم".

"مؤامرة" جورج سوروس
تكراراً، تكاد أن تكون التهمة الأكثر رواجاً في صفوف المعادين للسامية في أميركا، هي التلاعب بمصير أميركا عبر الأموال. ويركز أولئك على شخصيّة، كالمتمول المالي الشهير جورج سوروس، ويصفونها بأنها دليل على تلك التهمة. في سياق هجوم في يوم سبتٍ على كنيس، رفض مسؤول "لجنة الحزب الجمهوري لحملة انتخابات الكونغرس" إدانة حملة إعلانيّة تربط مرشحاً ديموقراطيّاً مع جورج سوروس، وهو من الأشخاص الذين تلقوا قنبلة أنبوبيّة عبر البريد في الأسبوع المنصرم. إذ تضمّن الاعلان الذي أُطلِق في 18 تشرين الأول الماضي، مُستهدِفاً أحد مرشحي الحزب الديموقراطي إلى انتخابات الكونغرس، مشهداً مُمَنتَجاً يظهر فيه لاعب البيسبول الأفريقي- الأميركي كولن كبيرنك راكعاً ومحذّراً من أنّه "دُفِعَ مال إلى غوغاء اليسار كي يتظاهروا في الشوارع". وتعقب ذلك صورة لسوروس محاطاً بأكوام من النقود التي طُبِعَت في دولاراتها نجمة داوود. ويكرّر الإعلان نغمة كلاسيكيّة في معاداة الساميّة: "البليونير جورج سوروس يموّل المقاومة". توضيح بأن كبيرنك كان أول من رفض الوقوف أثناء أداء النشيد الوطني الأميركي في المباريات، مستبدلاً ذلك بالركوع كإشارة للاحتجاج على أوضاع الأفارقة- الأميركيّين، وكذلك يستعمل اليمين الجمهوري كلمة "مقاومة" كوصمة لكل من يناهض سياسات ترامب.

في مقلب آخر من المشهد عينه، زعم عضو الكونغرس الجمهوري مات غايتس في فلوريدا، من دون أدلة، أن سوروس موّل "قافلة" المهاجرين الآتين من هندوراس. وتحمل الكلمات إشارة إلى فكرة تلاقي صدى لدى متطرفي اليمين، بأن اليهود يريدون إغراق الولايات المتحدة بـ"الغرباء"، كي يسهل علبهم التحكّم في البلاد.

وقبيل الانتخابات النصفيّة للكونغرس، كتب كيفن ماكارثي، زعيم الغالبية الجمهوريّة آنذاك في مجلس النواب، تغريدة حذفها بعد الهجوم على الكنيس، وكانت: "لا نستطيع أن نترك سوروس وستاير وبلومبرغ، يشترون هذه الانتخابات"، مع التذكير بأن هؤلاء الثلاثة يهود.

ولم يتردد رودي جولياني، عمدة نيويورك الشهير، إبان ضربات الإرهاب في 11/9، في إعادة بث تغريدة تشير إلى سوروس بوصفه من أعداء المسيح، ومنخرطاً في "المؤامرة" ضد أميركا. وهناك من يذهب في التطرّف والتفكير بعقلية المؤامرة إلى حدود قصوى. فمثلاً، بعد تظاهرة "البيض الوطنيّين" و"النازيّين الجدد" في تشارلوتسفيل، اتهم النائب الجمهوري عن "آريزونا" بول غوسار، سوروس، بأنه الممول لتلك التظاهرة!

وفي الإطار عينه، من المستطاع الإشارة الى انتشار أفكار معاداة السامية بين مجموعة من المليشيات الأميركية المسلحة ("ميليشيا ولاية فلوريدا" و"الأمة الآرية" و"الجمهرة الكوميتشية" و"ميليشيا من أجل الدفاع عن الدستور"...)، تشمل اتهام اليهود بالانخراط في مؤامرة عالمية ضد أميركا، إضافة إلى نشر الانحلال والفساد الأخلاقي وغيرها.

والأرجح أن مقتلة كنيس بيتسبرغ، تؤشّر على وجود اهتزاز عميق بين يهود أميركا المستهدفين من تلاوين الشعبوية الترامبيّة، وبين السلطة السياسية في إسرائيل المنتشية بعلاقات غير مسبوقة مع ترامب. فهل مَن يفكر بالتقاط ذلك الخيط، والعمل على نسيج منه، يستند أساساً إلى التمييز الواضح بين الديانة اليهودية وبين اسرائيل في مرحلة القومية الدينية، وهي شكل أعلى لاستيلاء السياسة على الدين؟
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024