ساعات الظلمة الرقمية

شادي لويس

الأربعاء 2021/10/06
لعل وصف الافتراضي، لم يعد يليق بعالمنا الرقمي، أو بالجانب المُرقمَن من العالم، وهو معظمه إن لم يكن كله. لم يعد الافتراضي افتراضياً، وعلى الأرجح لم يكن فيه ما يستدعي صفة الافتراض في أي وقت من الأوقات. الساعات الست من توقف "فايسبوك" و"انستغرام" و"واتسآب"، كانت الأطول على كثيرين، عماء شبه كامل، وشعور بالانفصال، بل وربما الفَقد.

الافتراضي واقعي تماماً، بل ولعله أكثر واقعية من الواقع. تخدم المنصات الثلاث، أكثر من ثلاثة مليارات مستخدم حول العالم. ربما لم يحدث أبداً من قبل، أن ارتبط كل هذا العدد من البشر تحت مظلة واحدة. تطبيق "انستغرام" يجتذب أجيالاً أصغر سناً، فيما يتركز البالغون في "فايسبوك"، أما "واتسآب" فأخذ موضع شبكات الاتصال المحلية في كل مكان في العالم تقريباً، وبالأخص في الدول الأفقر. حتى ولو كانت المكالمات التليفونية أو الرسائل مجانية، يتجه الجميع وبشكل عفوي إلي التطبيق لتبادل الرسائل ولإجراء الاتصالات.

انتهز كثر فرصة الساعات الفارغة لانتقاد الطبيعة الاحتكارية للعالم الرقمي، وثغراته التقنية الفادحة، فكيف يمكن السماح بتركيز ملكية تلك المنصات كلها في مؤسسة واحدة! بل ودمجها جميعاً في بنية تحتية متشابكة! ومركزتها جغرافياً في الولايات المتحدة! صدمة الخواء التي أصابت الكثيرين بعد توقف التواصل الشبكي، كانت دافعاً لتبرّم نوستالجي من انحسار التواصل الحقيقي، صاحبه إدراك مفاجئ بهشاشة روابطنا الاجتماعية الحالية.

أخبرني أحد الأصدقاء، مذهولاً باكتشافه، أنه لا يملك أي طريقة للتواصل مع والدته خارج المنصات الرقمية. كان عليه الاتصال بشقيقه في بلد آخر للحصول على رقم هاتفها الأرضي. ما تجلّت هشاشته، لم تكن الصلات الاجتماعية، بل وجودنا الاجتماعي نفسه، أي بنية الذات الاجتماعية المؤسسة على ملايين البيانات من صور وذكريات ونصوص وإعلان مواقف شخصية وجماعية، ومعها سجلات التواصل الحميمة والمهنية والعامة، وكذا سجلات الأصدقاء والمتابعين والخصوم والمحظورين. احتجب هذا كله في لحظة، الماضي والحاضر معاً، وما بدا مفزعاً للبعض هو سؤال إن كان سيمكن استعادة كل شيء كاملاً أم لا؟

كان هناك شعور بالشماتة لم يمكن إخفاؤه. تشفٍّ ممزوج بسخرية، حتى بين أكثر المنخرطين في المنصات المعطّلة، ربما ما أججه هو لحظة الانعتاق من الرغبة القهرية تجاهها. أو لعل الدافع هو علاقة الاضطرار مع تلك المنصات، التي وإن قدمت خدماتها مجاناً، فإنها تملك سلطة مطلقة على مستخدميها، بتعاقد إذعان يَسري في اتجاه واحد. سُلطة للحذف والتجميد والنفي خارجها، عبر أدوات رقابة وعقوبات آلية لصيقة ولحظة بلحظة، وبأجندات سياسية متحيزة وشبه معلنة. البعض الآخر، من "صنّاع المحتوى" في فايسبوك أو انستغرام، يشعرون بالغبن تجاه المنصتين، فالمحتوى الذي ينتجونه هو ما يثير الحركة في الشبكة ويجذب الإعلانات ويولد المداخيل الهائلة من ورائها، ومع هذا يظل عمل هؤلاء، سُخرة كاملة، بلا أي مقابل مادي.

لكن هذا لم يكن كل شيء. فمع الاندفاع المفاجئ لملايين الأفراد إلى المنصات البديلة، ظهرت بشكل أوضح تلك الرغبة الغامرة في التواصل مع الآخرين، التواصل الدائم، والكثيف ومع دائرة واسعة من المعارف والأصدقاء والمتابعين. رغبة صادقة بلا شك، وودودة. وبين الأفراد وبعضهم البعض، امتدت الأيادي تتلمس في العماء الشبكي كل طريقة أخرى للتواصل. أرقام هواتف قديمة، عناوين البريد الرقمي المنسية، أو أصدقاء مشتركون.

ما اكتشفه الكثيرون لم يكن أننا أقل تواصلاً، ولا أن علاقتنا أقل عمقاً من الماضي، بل شيء آخر. ففي فترة لم تتجاوز العقدين، تغيّر شكل حاجاتنا الاجتماعية وطريقة إشباعها، ومعها ذواتنا وطقوس السلوك والروتين اليومي، وطرقنا لتسجيل هذا كله وحفظه وإدارته. ما تم اكتشافه حقاً هو عمق هذا التغيير ومقدار جذريته.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024