اثنتا عشرة دبابة محترقة

أحمد عمر

السبت 2019/05/11
ترجلّت ساق أنثى من الباص على الأرض الطينية التي تجمعت فيها برك الماء من أمطار الأمس. تحسست القدم الأرض واطمأنت إلى صلابتها، فتبعتها أختها الثانية ووقفت بجانبها. شخصت حسناء ممشوقة أمام باب الباص الذي لم يكن فيه ركاب غيرها، وخفق حجر في جبل في المشرق من أثر نبضة خفيّة، فتدحرج، وتأوّهت بعض الغيوم فنفثت وابلاً في مكان بعيد.

هطلت أمطار كثيرة حتى إنَّ الينابيع القديمة المندثرة، تفجّرت، والآبار التي جفّت فارت من جديد، ثم بان المشهد عن سيدة شديدة الأناقة في عباءة زرقاء مطرزة الحواشي، طويلة القامة مثل رمح، وضّاءة الوجه، برزة، على رأسها وشاح معقود على شكل تاج. غادرت الباص وتركته موحشاً، يباباً، قفراً، وتهادت بين البرك الصغيرة وهي تتحاشى الخوض فيها، حتى صارت مشيتها أشبه برقصة سماح، لا ريث ولا عجل، تنوشها أشعة من شمس نيسان اللامعة.

رفع السائقون رؤوسهم في محطة الباصات الواسعة، بالحاسة السادسة قبل أن يسمعوا وقع خطواتها، وكانوا قد تجمعوا حلقاتٍ حول طاولات صغيرة يشربون الشاي، ويدخنون في انتظار أدوارهم في الرحلات القليلة، ويؤجلون أقدارهم، وهم يرمون النرد في صناديق الخشب المزينة والمرصّعة، التي رتّلت في بلاطها أزراراً سوداء وبيضاء، تطول أو تقصر في مثلثات الأخاديد الملونة، خسارةً أو ربحاً، والمفرودة المصراعين مثل صفحتي كتاب خانته القدسية، عندما أحسوا بوجودها، كأنما انبثقت من العدم الطري أو من أثر برق السماء مثل الكمأة. همدَ النرد، واستقر على رقم مسكين، وسكتت الأزرار عن زحفها ووثبها بين الأخاديد وصمت الخشب، واشتعلت السجائر وتوهجت أطرافها بجمرات صغيرة، وتعالى الدخان من الصدور فكأنما ازدادت اشتعالاً أو احترقت من نار خفية. ازداد عبُّ الدخان في الصدور ثم خرج مجدولاً، ملتوياً مثل ثعابين غاضبة من حسرات أزلية وثأر قديم. تعلقت العيون بالحسناء، وهي تتهادى مثل بجعة، وتشق طريقها بين البرك التي حاولت إعادة العدل للاستواء بين الأرض والماء، تحاول عباءتها اللحاق بها من أثر الرياح المرسلات التي تشدّها مثل طفل شقي. مدَّ سائق أصابعه إلى علبة الدخان يبحث عن سيجارة جديدة يخمد بها اللوعة، وخشخشت الأنفاس في القصبات الهوائية المسودة والمكظومة من اليأس، وتاهت غيوم من العطش في السماء، وقفزت أسماك من البرك محاولة النجاة من الماء العكر للسباحة في زرقة العباءة الصافية التي عبرت بجانبها.

تآمرت الرياح المبشّرات المتعبة من عاصفة أمس، فمدّت يديها إلى طرف العباءة فرفعتها إلى التخوم الخطيرة، فبان قوام الحسناء، وظهر عمودان من الرخام الصلب من وراء غاشية الثوب الذي ألصقته النسمة بفخذيها، فاتقت الحسناء الصبا بأن استدارت حيلةً منها لجمع شتات النقوش في العباءة التي بعثرها الهبوب، فظهرت ثمانية كواكب من مجرِّة الفتنة، فاختبلت الجهات، وزفرت غيمة وانقبضت أخرى، وارتعدت فرائص اثنتي عشرة دبابة محترقة وجاثمة في ركن المحطة. أعادت الحسناء العباءة إلى الرشد، فضمت الجسد المتهادي ومشت على موجات البرّ تجري بها ريح طيبة، وأعادت السكينة إلى السائقين الوجلين، والدخان ما يزال يعلو من السجائر وفي العيون يلمع سراب بعيد هارب.

كان المشهد غريباً، يشبه لوحة من لوحات بدء الخليقة؛ حسناء تمشي في أرض أقفرت، بها باصات واقفة وجثث حديدية رابضة منذ سنين في المكان والعيون شاخصة ترهقها ذلّة الانتظار وتصدمها البغتة، ونذر الخطر.

بلغت الحسناء في عباءتها وهي تخطر مثل لبوة حاجز حلقات السائقين الثلاثة المتعبين من الأسفار والآمال على طرقات متهالكة من غير وصول، وأحجار النرد لا تزال مقلوبة حائرة من مقادير الأرقام، ونطقت بصوت واثق ملكي يشبه الفرمان، ويماثل إخراج السيف من غمده، الهجوم خير وسيلة للدفاع، هتفت: السلام عليكم.

كأنما صحت الدنيا بعد مطر شديد ولمع السيف تحت ضوء الشمس.

فوجئ السائقون بالتحية الساطعة، وتحولت الذئاب إلى كلاب وديعة، وتمتموا يردّون عليها السلام بمثله، بصيغة الجمع فكأنها أمة كاملة، فخرجت أصواتهم مترادفة، غير متماثلة، بعضها نحيل وبعضها الآخر مطعون واهن في النزع الأخير:

وعليكم السلام.

وأحسّوا جميعاً أنها قهرتهم بتحيتها، وأنهم من بعد غلبهم سيغلبون، وأنهم وجب عليهم أن يردوا عليها بتحية أحسن منها لكنهم ما استطاعوا سبيلا، فخرجت أصواتهم مكسورة، شظايا، كأنهم استيقظوا من سبات، أو أُخذوا على حين غرّة، في ظلام الليل، أو أنها ضبطتهم بالجرم المشهود، فأحنوا رؤوسهم مخذولين، وبات بينهم وبينها سلام قاهر، وأغضوا خجلاً وعادوا يحدّقون في أكواب الشاي المخذولة من عزيف الشفاه وهي تحاول استحلاب الألحان الحلوة المعتّقة، وتركوها تمضي تحت ظلال المعاهدة التي عقدتها بتحيتها التي كانت ما تزال تخفق مثل أذيال عباءتها الخالدة، غير عابئة بجثث الدبابات المحترقة التي نما فوقها عشب وزحفت فوقها الطحالب.

عبرت، وتوارت، ونجت من الكمين، فعادوا إلى صناديق النرد أسرى الأرقام، وقذفوا أحجار نردهم من جديد، مرةً تلو أخرى، فتبادلت وجوهها الأقدار المنكوبة، من غير أمل، نرد الخسارات الدائمة.

سبَتَ الرياح الرخيّة السجسج بقايا دخان الدبابات اليابس، التي حرست عبور الحسناء إلى جهة مجهولة.

ذابت نجمة سكريّة في صحن الأفق.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024