عن أي حياد يتحدث البطريرك

ساطع نور الدين

الأحد 2020/07/19
يكسب جدل الحياد، الذي اثاره البطريرك بشارة الراعي، مصداقية وحيوية ، إذا ما بني على حقيقة ثابتة لا تحتاج الى برهان مفادها أن الدولة اللبنانية هي اليوم في طور التحلل والاندثار، على الأقل بشكلها الذي عرفت فيه طوال مئة عام مضت من عمر لبنان.

ثمة مغامرة في طرح الحياد، تعبر ضمناً عن المسؤولية الوطنية للموارنة وكنيستهم تحديداً، عن إخراج لبنان من المأزق الراهن، مثلما تعكس نضجاً في وعي المسلمين الذين لم يقابلوا الإقتراح الجديد بوصفه إنعزالاً جديداً او تقسيماً مقنعاً أو مؤامرة دولية، وأبدوا حتى الآن قدراً من التسامح، الذي لا يستثني الفيدرالية الطائفية نفسها التي كانت في ما مضى خيانة وطنية كبرى يستحق مروجها الاعدام.

الحوار ممكن، مفتوح، لا تقطعه سوى بعض الاصوات الناشزة، والرؤوس الحامية، التي لم تلتقط حتى الآن الاشارة الجوهرية التي يختزلها الطرح البطريركي، وهي ان لبنان صار بلا غطاء عربي أو دولي، وباتت مختلف طوائفه ومذاهبه تفتقد الحليف  الخارجي القوي المأمون الذي ينصرها ويعزز موقعها الداخلي، بعدما جرى خلال القرن الماضي إستدعاء وإستهلاك مختلف الحلفاء الخارجيين الاجانب ثم العرب وإستخدامهم في الصراعات اللبنانية التي لا تنتهي.

لكن الحوار على أهميته يدور خارج السياق. للمأزق الوطني عناوين محددة ومعروفة ليس من بينها اليوم، او بالاحرى ليس من أولويتها، السياسة الخارجية اللبنانية، السيئة طبعا، والتي تبدو وكأنها عوارض جانبية، لمصادر خلل داخلية أشد إلحاحاً وخطورة. الدولة التي تتهاوى الآن مثل بنيان كرتوني، والتي لم تبنَ على أسس متينة لا بعد الطائف ولا قبله طبعا، هي الهاجس الاكبر. وإعادة بنائها على قواعد سليمة هي الهم الابرز. والاسئلة الصعبة التي يطرحها اللبناني اليائس فعلا، لا تقتصر على الحاجة الى تبديل الوجوه بل تشمل تغيير النظام برمته: كيف تستعاد السلطات الاربع ويحترم الفصل في ما بينها ؟ كيف تتجدد الحياة السياسية وتتغير رموزها ووجوهها وقيمها؟ بأي قانون للإنتخابات يحرم التمديد او التجديد او التوريث؟ كيف  كيف يعاد بناء القطاع العام المتهالك، وكيف تنتظم علاقته مع القطاع الخاص المتفلت؟

في طرح الحياد ملامح إنتفاضة مارونية على عهد الرئيس ميشال عون وتحالفاته وخياراته السياسية التي ألحقت بالموارنة أشد الأضرار والخسائر السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لعل الكنيسة تحاول أن توفر للعهد مخرجاً من تورطه الشديد في مغامرات حزب الله الداخلية والخارجية الخطرة، التي جردت لبنان من جميع عناصر قوته التقليدية، وباتت تهدد وجوده كدولة.

ولا حاجة الى دليل على ان الحياد الذي تطرحه الكنيسة المارونية اليوم، موجه ضد حزب الله تحديداً. لكنه مبني على أمل زائف ، أو سابق لأوانه ، في إمكان إستعادة الشيعة الى الوطن، وإنهاء تغريبتهم السورية والايرانية الباهظة الثمن ..وهو ما يحتاج الى وقت طويل لكي تكتشف الطائفة الشيعية ان تلك الغربة مدمرة لمستقبلهم اللبناني والعربي، على المدى البعيد.

التعامل مع الحياد كخطاب ماروني، مستعاد من الماضي، لا ينتقص من قيمته ولا من فرص تطويره، حتى ولو إعتبره السنّة مجرد سلاح سياسي يستخدم في مواجهة الغلبة الشيعية المفترضة، ولو شك الدروز في أنه مسعى لإستعادة الهيمنة المسيحية على البلد. في ثورة 17 تشرين بعض من الحياد، العابر للطوائف، وكثير من التمرد الماروني والمسيحي عموما على الدولة والمؤسسات والأحزاب التقليدية..وعلى الكنيسة نفسها، التي تفتح اليوم أبوابها كملاذ آمن.

لكن تطوير فكرة الحياد وتحويله الى نظام جديد للبنان، ليس شأناً محلياً أو قراراً تتخذه الغالبية اللبنانية الساحقة وتفرضه على الخارج. وليس هناك من دليل او مؤشر على ان ذلك الخارج سيكون متحمساً لدعم هذا الخيار، الذي يحتاج هو الاخر الى ما يشبه الاجماع الخارجي على القبول بلبنان كواحة مستقلة. فالاستثناء الاسرائيلي الذي شدد عليه البطريرك الراعي في ذلك الطرح،لا يلغي خطر إسرائيل ولا تهديدها الدائم للكيان اللبناني، ولا للارض اللبنانية، وهو تهديد سابق للهجرة الفلسطينية وسيظل قائماً بعدها.

أما بناء الحياد على عدم الانحياز بين الشرق والغرب، وهو طرح دولي مستحضر من أواسط القرن الماضي، فان الكنيسة تحتاج الى معجزة لتعريف الشرق والغرب وفق معطيات ومصطلحات القرن الحالي.. إلا إذا كانت تقصد بهما أميركا غرباً وإيران شرقاً، وكلتاهما لا تستحقان في عالم اليوم أي إحالة جدية الى الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والاشتراكي. فكيف إذا كان المقصود بالخطاب البطريركي الاحالة الى الصراع السعودي الايراني الذي ليس له سوى الافق المذهبي بين السنة والشيعة.

 الحياد ضروري، حتمي، بعدما إستنفد لبنان أغراضه السابقة، وصار عارياً، عاجزاً عن تحديد وظيفته ودوره. لكن البحث الجدي ربما يتطلب الانتظار حتى القرن المقبل.  

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024