واشنطن إذ تحمي النظام الايراني

حسن فحص

الأحد 2019/11/24
يبدو من شبه الواضح ان واشنطن والعواصم الغربية، الترويكا الاوروبية تحديدا، من اكثر الاطراف الدولية إقتناعا بعدم وجود مصلحة لها في القضاء على النظام الايراني لما يحمله ذلك من تحديات وتداعيات خطيرة على منطقة غرب آسيا وبالاخص الدول العربية المحيطة بها والخليجية على وجه التحديد، اضافة الى صعوبة الحد من الاثار السلبية لازاحة النظام على الاستقرار الامني والسياسي للاقليم، وصعوبة تقدير وتوقع ردة فعل حلفاء طهران والاعمال التي قد يلجأون اليها في ظل دخولهم في دائرة الاستهداف والاستئصال المباشر اذا ما سقط النظام في طهران.

لا شك ان الاحداث الاخيرة التي شهدتها معظم محافظات ومدن ايران نتيجة قرار مراكز النظام مجتمعة ( السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية والاجهزة والمؤسسة العسكرية) برفع سعر الوقود (البنزين)، شكلت تحديا قد يكون وجوديا للنظام الايراني خصوصا وانه جاء في مرحلة حرجة تواجه النفوذ الاقليمي لطهران في المنطقة ان كان على الساحة العراقية او الساحة اللبنانية، تعزز الشعور به بعد مسارعة اقطاب المعارضة في الخارج، وتحديدا جماعة "مجاهدي خلق" بقيادة مريم رجوي والجماعات الملكية بزعامة رضا محمد بهلوي نجل الشاه لاعلان دعمهما لحركة الاحتجاجات ودعوة المعترضين وكل المتضررين من السلطة والنظام في ايران للخروج الى الشوارع لمواجهة الاجهزة الامنية والاطاحة بالنظام، وهو ما بدا واضحا في كلام المرشد الاعلى في اول تعليق له على هذه الاحداث عندما اتهم هاتين الجماعتين في التحريض والوقوف وراء هذه الاحتجاجات. 

حجم التحدي الذي سببته التظاهرات التي لم تقف عند حدود الاعتراض على رفع سعر البنزين، تجاوز حدود الازمة الامنية وخرجت عن حدود خلق ارباك للاجهزة الامنية ليلامس التحدي الوجودي له في سياق اتساع رقعة الاستهداف لتشمل الدور والنفوذ الاقليميين، الامر الذي لم يترك للنظام خيارا سوى رفع مستوى التصدي والمواجهة مع هذه الاحتجاجات بالعنف غير المسبوق بما يتيح للنظام حسم الازمة في اقصر وقت ممكن ما يسمح له باستيعاب التداعيات واستعادة التوازن بسرعة. 

لم يتردد النظام واجهزته الامنية في توجيه الاتهام السياسي للاحتجاجات مبكرا، عندما تحدث المرشد الاعلى ورئيس الجمهورية حسن روحاني عن ضرورة التمييز بين الذين خرجوا اعتراضا على رفع الاسعار والازمات المعيشية وبين الذين خرجوا للتخريب، في محاولة لنزع الصفة السياسية عن هذه الفئة ووضعها في خانة التخريب بما يسهل على الاجهزة التعامل معها بشدة وعنف تحت شعار استعادة الامن والاستقرار، الا ان اتساع رقعة هذه المواجهات وما تخللها من مواجهات عسكرية بين الاجهزة الامنية وجماعات مسلحة من المعترضين وضعت النظام في حالة من الترنح فرضت عليه المسارعة الى رفع وتيرة المواجهة والتصدي من دون حسابات لحجم الخسائر الناتجة عن ذلك.

المخرج لتوفير الغطاء الاخلاقي للاجراءات التي قامت بها الاجهزة الامنية والعسكرية والاعداد الكبيرة للخسائر البشرية بين المحتجين، قدمتها الادارة الامريكية، اولا على لسان وزير الخارجية مايك بومبيو الذي اعلن دعم واشنطن لتحركات الشعب الايراني التي تؤسس لاضعاف النظام من دون الاطاحة به، ثم لحقه في ذلك موقف الرئيس دونالد ترمب، وهي خطوة سمحت للنظام في وضع الحركة الاحتجاجية في دائرة "المؤامرة الامريكية – الاسرائيلية المدعومة من بعض الانظمة الرجعية في الخليج"، ما شكل الضوء الاخضر لاستخدام "القبضة الحديدية" والعنف المفرط في السيطرة على الاحتجاجات وانهائها حسب ما تقول طهران. 

خطوة بومبيو تذكر بخطوة مشابهة قامت بها وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون في عهد الرئيس السابق باراك اوباما خلال احداث الحركة الخضراء عام 2009، عندما كان النظام في طهران يواجه ازمة سياسية حقيقية على خلفية نتائج الانتخابات الرئاسية وعودة محمود احمدي نجاد للرئاسة في دورة جديدة، عندما اعلنت حينها الخارجية الامريكية عن لقاء جمع الوزيرة مع قيادات من المعارضة الايرانية التي تمثل الحركة الخضراء، الامر الذي وفر الغطاء للنظام في طهران الغطاء المطلوب والمخرج في الذهاب الى استخدام العنف في التصدي للحركة الخضراء والزج بقياداتها في السجون او الاقامة الجبرية المستمرة حتى الان (مير حسين موسوي ومهدي كروبي). 

الموقف الاخير للوزير بومبيو ومحاولة التنصل من مسؤولية الادارة الامريكية في الازمة الاقتصادية الايرانية وتأكيده بان الاحتجاجات التي شهدتها ايران لم تكن بسبب العقوبات التي فرضتها ادارته، بل بسبب سوء الادارة للملف الاقتصادية من قبل الحكومة الايرانية، يكشف ان المواجهة بين الطرفين لم تصل الى مرحلة كسر الخطوط الحمر بينهما، وان ما تسعى له واشنطن لا يندرج تحت عنوان الاطاحة بالنظام، بل الضغط عليه من اجل تعديل سلوكه، ان يترنح ولا يسقط بما يفرض عليه تقديم تنازلات في الملفات التي تشكل مساحة الاشتباك بينهما، وتحديدا في البرنامجين النووي والصاروخي والنفوذ الاقليمي وتحديدا في الموضوعين اللبناني والعراقي. 

وعلى قدر حرص النظام الايراني على التركيبة العراقية في السلطة والعمل باقصى ما يملك من قوة وجهد لمنع سقوطها تحت وطأة الاحتجاجات الشعبية والضغوط السياسية الداخلية والخارجية، فان الحرص الامريكي لا يقل عن ذلك، وان ما تمارسه واشنطن من ضغوط على السلطة العراقية يصب في اطار صراعها مع طهران من اجل قطع الطريق على مساعيها للاستفراد بالقرار السياسي والامني والاقتصادي على هذه الساحة وبالتالي تكريس شراكتها مع الايراني، ولعل ما يعزز مخاوفها من الطموحات الايرانية على هذه الساحة ما كشفته الوثائق التي حصلت عليها واشنطن من القنصلية الايرانية في البصرة والتي تكشف حجم النفوذ الايراني وقدرة الاجهزة الايرانية على استيعاب وتوظيف العديد من العناصر التي كانت تعتمد عليهم واشنطن في العراق. 

كلام السفير السابق جفري فيلتمان امام احدى لجان الكونغرس حول الوضع اللبناني، يكشف حجم القلق الامريكي من "تغول"  النفوذ الايراني على الساحة اللبنانية والتداعيات السلبية لقرار التخلي عن هذه الساحة لصالح حزب الله الحليف الاول لايران، وبالتالي فان الخيار المتاح هو العودة الى سياسة "تهشيم صورة الحزب" هذه المرة داخل بيئته الحاضنة والتركيز على تعزيز الانقسام داخلها، من دون الذهاب الى خيار الاطاحة بالنظام. وهو خيار يشكل رسالة تهدئة امريكية الى الخصم الايراني بامكانية التوصل الى "حل وسط" بينهما على هذه الساحة بما يسمح في اعادة تفعيل المؤسسات الرسمية بما فيها الحكومة مع الابقاء على الحرب الناعمة مع الحزب للحد من نفوذه وهيمنته على قرار الدولة ومنعه من فرض اجندته الاقليمية في الملفات التي تشكل مصدر قلق لواشنطن، خصوصا ما يتعلق بالحصول على ضمانات تتعلق بأمن اسرائيل المهدد بالترسانة الصاروخية لدى الحزب. 

ويبدو ان الجانبين الايراني والامريكي قد دخلا في معركة شد الحبال على الساحة الداخلية الايرانية والساحات الاقليمية، في معركة تحسين شروط لاستخدامها على طاولة المفاوضات التي تؤكد اكثر من جهة انها قائمة وتحرز تقدما ملحوظا قد تظهر نتائجها في المدى القريب. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024