هواوي والسودان والساروت

شادي لويس

الثلاثاء 2019/06/18
قبل عَقدين، كان أصحاب الحتمية التكنولوجية يبشرون بالإمكانات الهائلة في الشبكات ووسائل التواصل الرقمية وعوالمها الافتراضية، القدرة الهائلة على تمكين الهامش، تحدي السردية المهيمنة وزعزعة الاحتكار السلطوي للمعلومات، كشف التجاوزات، إمكانات التواصل والتنسيق والحشد في حيز مادي مغلق ومحاصر. وجاءت الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي، لتعزز جدلية الحتميين، فالتكنولوجيا الرقمية ليست مجرد أداة أكثر كفاءة ونجاعة وأقل مخاطرة، بل هي البنية التحتية لعالم جديد شجاع.

وبقصد أو من دونه، اقترض المتحمسون للرقمنة بعضاً من ماركس ومن البنيويين. فالبنية الرقمية ليست إطاراً خارجياً للعالم، بل المنتج لعلاقاته، علاقات جديدة بالكامل، عمليات السلطة والمقاومة وسبل التشاركية ونماذج عمل أكثر مرونة واستقلالية. وكانت مآلات الثورات العربية قد زعزعت تلك الثقة المبالغ فيها في المعجزة الرقمية. وجاء بعدها الصعود اليميني في الغرب، بالاستعانة بوسائل التواصل الاجتماعي، ليعزز الفرضية المضادة، بأن البنية الرقمية محايدة، ولا تحمل بالضرورة طبيعة جوهرية ذات جانب تحريري.

لكن التطورات الأخيرة والمتسارعة، خلال الأسابيع الماضية، توحي بأكثر من الحيادية التكنولوجية. فأزمة شركة هواوي الصينية مع الإدارة الأميركية، كشفت، مرة أخرى وبطريقة أكثر صرامة، المركزية المذهلة للعالم الرقمي، ومدى هشاشة فكرة الإتاحة، التي تبدو اليوم مشروطة بقرار سياسي يصدر عن البيت الأبيض، وهو قرار قادر على الحصار والعزل والمنع، بل والنفي شبه الكامل من العالم. فالإنترنت ليس مشاعاً، كما كان ينبغي لنا أن نصدق، والعالم ليس مفتوحاً بالقدر الذي كنا نظنه أيضاً. أما قدرة الصين على التحايل على تلك المركزية أو منافستها، فليست دليلاً على اللامركزية، بل العكس، وفي أفضل الأحوال تقودنا إلى تصور مركزية ثنائية القطب.

وجاء تعطيل المجلس العسكري في السودان للإنترنت، تكراراً لما فعله نظام مبارك خلال ثورة يناير 2011. وفيما اكتفى النظام في مصر بتعطيل الاتصالات، بمعظم أشكالها، ليوم واحد، ولاحقاً حجب المواقع المعارضة، فإن الحكام الجدد للسودان يبدون عازمين على إبقاء السودان بلا إنترنت لوقت طويل. ولا تنحصر دلالات ذلك في بيان القوى الهائلة والفورية التي تملكها السلطات الحاكمة في العالم الرقمي وعليه، وقدرتها على محوه في لحظة واحدة، بل يؤكد أيضاً الهشاشة الكاملة التي تحيط بأي حراك يعتمد على البنية الرقمية للتواصل والتنظيم والحشد. ففي ظل اعتماد شبه كامل على الشبكات الرقمية لتمرير القرارات والإعلان عن الخطوات المقبلة، وجد الحراك السوداني نفسه فجأة في عزلة، لا عن العالم فحسب، بل وعن السودان.

ومن المثير للأسى والسخرية في آن واحد، أن حملة اللون الأزرق في وسائل التواصل، والموجهة للتضامن مع الثورة السودانية، سيتمكن الجميع من المشاركة فيها ومتابعتها، دون السودانيين أنفسهم. ولا يتبقى للسودانيين لإكمال ثورتهم، سوى لجان الأحياء واللجان النقابية، أي الصورة الأكثر تقليدية للتنظيم، والأكثر قدرة على البقاء والمقاومة في وجه السلطة، فيما يتبخر الانتظام الرقمي بين لحظة وأخرى، وبكبسة زر.

قبل أيام، محا "فايسبوك"، المنشورات الإيجابية المتعلقة بعبد الباسط الساروت، وبشكل متزامن واسع ومثابر، وعوقب بعض أصحاب تلك المنشورات بتجميد حساباتهم. ورغم أنه من المرجح أن عملية المحو كانت وراءها شكاوى منسقة من مؤيدي النظام السوري، فإن الطريقة الاعتباطية التي تمت بها عملية المحو، أكدت مرة أخرى علاقة الإذعان الكاملة بين المستخدمين وشبكات التواصل الاجتماعي، والتي تبدو قرارتها نهائية ومطلقة، ولا يمكن مراجعتها بشكل فعال. هكذا وجد الكثيرون أنفسهم في معركة خاسرة ومهينة مع "فايسبوك" على الحق في التعبير، بدلاً من استخدامه المفترض لتعزيزها.

من "هواوي" إلى السودان، ووصولاً إلى منشورات الساروت، تبدو الدلالة الأوضح هي تلك الهشاشة التي تفرضها الرقمنة وشبكاتها على مستخدميها، والحاجة إلى معادلة ذلك الضعف، بالاحتفاظ في الوقت نفسه ببدائل التواصل والحشد والانتظام التقليدية والمباشرة، بوصفها الأكثر مرونة والأكثر صموداً والأقل مركزية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024