روسيا تعبت من بوتين

بسام مقداد

الأربعاء 2019/07/31
لا يبدو أن الكرملين بوارد البحث عن حلول سياسية للإحتجاجات ، التي تتوالى في شوارع موسكو منذ أسبوعين ، اعتراضاً على عدم السماح لبعض المعارضين الليبرالين من الترشح لانتخابات برلمان مدينة موسكو . فهو يصر على مواصلة نهج القمع المفرط للإحتجاجات ووصفها بانها اعمال شغب "لاينبغي السماح بتكرارها" ، حسب المدعي العام الفدرالي ، مبرراً بذلك رفض السلطات السماح باحتجاجات مماثلة السبت القادم في المكان ، الذي طلبه المعارضون . كما أعلنت هيئة التحقيق الفدرالية ، الثلاثاء المنصرم، أنها أقامت دعاوى جنائية بحق ثلاثة من المشاركين في احتجاجات السبت المنصرم ، بتهمة مقاومة رجال الشرطة والتسبب بالأذى لهم ، مما يهدد المتهمين بعقوبات بالسجن لمدة تتراوح بين 8 و 15 عاماً ، على قول صحيفة "VEDOMOSTY" الرصينة. 

وتقول الصحيفة ، أنه على الرغم من الغرامات والإعتقالات والإتهامات بارتكابات إدارية ، إلا أن كل ذلك بدا وكأنه انتصار للمحتجين ، الأمر الذي لا يمكن أن تسمح به السلطة ، مما حدا بها إلى التصعيد واعتبار الإحتجاجات أعمال شغب "مخطط لها" ، تندرج في خانة الأعمال الجرمية . وتنقل الصحيفة عن كاتب سياسي قوله ، بأن ردة فعل السلطة تقليدية عادية ، كما أية سلطة طبيعية ، تهدف للحؤول دون توسع حركة الإحتجاجات . 

لكن موقع "ROSBALT" القريب من الشيوعيين ، يرى أن الكرملين بسلوكه حيال  الإحتجاجات يعلن، أنه قد توصل إلى الإستنتاج بأن "طقوس التمويه المعتادة" قد انتهت وظيفتها ، ولم يعد بحاجة لها ، وقرر أن "ينتخب نفسه بنفسه" . ورأى أن السلطة المركزية قد نضجت لرفض جميع الطقوس الإنتخابية ، واختارت انتخابات برلمان موسكو مناسبة للإعلان عن ذلك . و"الديموقراطية الموجهة" ، التي كانت تسمح بعض عناصرها بتدخل الشعب في تعيين المسؤولين ، قد انتهت منذ 15 عاماً ، حين أُلغيت إنتخابات حكام المناطق. أما لماذا تحتاج السلطة ، عموماً ، إلى الإنتخابات ، فالعلماء يختلفون في تفسيراتهم للأمر ، إلا أنهم يجمعون تقريباُ ، على أن مظهر الإنتخابات يمنحها الشرعية . 

تشكك الصحيفة في أن تكون السلطات الروسية تفهم الإنتخابات على هذا النحو ، بل هي تعتبر أن الشعب مدين لها "بالعملية المرهقة" في تنظيم الإنتخابات على مختلف المستويات كل ايلول/سبتمبر. ولذا ، فإن أية علامات جحود وتمرد تعتبرها السلطة بمثابة خيانة . والطقوس الإنتخابية العادية يمكن الحفاظ عليها ، طالما أن جميع المشاركين فيها يلتزمون بأدوارهم . فالفئات الدنيا كانت طيعة دوماً ، و"المعارضة من داخل النظام" كانت تنفذ الأوامر. أما المعارضة من خارج النظام وأنصاف المعارضة ، فقد تمرنت مع الوقت على التكيف مع العمليات المعقدة ، التي ابتدعها النظام لاستبعادها ، وبقيت تحاول وتحاول دون جدوى القفز عبر الطوق ، الذي كان النظام يضيقه ويرفعه باستمرار . 

لكن ذلك كله قد انتهى ، والأنباء من العاصمة والمناطق الأخرى تقنع من هم في الأعلى ، بأن الخشوع أمامهم قد انتهى ، وأن الطقوس الإنتخابية المستندة إلى هذا الخشوع قد كفت عن العمل ، ولم تعد روسيا تقبل بها. وإذا تعين على النظام الإختيار بينه وبين روسيا ، فهو لاشك سوف يختار نفسه ، حسب الموقع .   

على أن النظام سجل تراجعاً محدوداً في موقفه ، حين أصدرت لجنة الإنتخابات الإتحادية وعداً بالنظر في كافة طلبات الترشيح ، التي رفضتها لجنة انتخابات موسكو ، بل وتم قبول طلب ترشيح ممثل أحد الأحزاب الليبرالية المعارضة. ورأت صحيفة القوميين الروس "SP" في هذه الخطوة الجزئية أن "الكرملين شعر بالخوف من ميدان موسكو وقدم تنازلات" . ونقلت عن كاتب سياسي قوله ، بأن السلطات قد ضخمت الحدث بممارساتها العنيفة ضد الإحتجاجات ، وتحول من حدث محلي إلى حدث فدرالي ، يخلق للسلطات تهديداً شاملاً ، بدلاً من وصول عدد من ممثلي المعارضة خارج النظام إلى برلمان موسكو . 

لكن صحيفة "VEDOMOSTY" المذكورة ، فقد نقلت عن كاتب سياسي روسي قوله ، بأن إعادة تسجيل طلبات بعض المرشحين ، ليس إلا محاولة مكشوفة من قبل النظام لشق صفوف المحتجين . ورأى في سلوك النظام هذا ممارسة تقليدية  للأنظمة التسلطية ، التي تشعر بالعجز عن مواجهة المعارضة مجتمعة ، ولذلك تنخرط في المفاوضات ، وتلبي بعض المطالب الجزئية للمعارضين المعتدلين ، وتطالبهم برفض التعاون مع القسم الأكثر راديكالية من المعارضة . ويقول هذا الكاتب بأن رفض المعارضة للمكان ، الذي عرضته السلطات عليها للإحتجاجات القادمة السبت المقبل في 3آب/ أغسطس ، سوف تستخدمه الأجهزة الأمنية لتصعيد قمع هذه الإحتجاجات . 

أما صحيفة الكرملين "VZ" فقد ثابرت منذ البداية على المتابعة الحثيثة للإحتجاجات ، ورأت "عاملاً خارجياً" يقف وراءها .  واعتبرت أن الإحتجاجات ليست عفوية ولا موسكوفية مطلقاُ ، طالما أن البوليس قد عاين بين المشاركين فيها "الكثير من الوافدين" ، وخاصة من أوكرانيا . وقالت في آخر متابعاتها يوم الأربعاء ، بأنهم "يريدون فرض الإضطرابات على موسكو بدل الإنتخابات" ، مستشهدة باتهامات رئيس بلدية موسكو للمعارضة الليبرالية ، بأنها تقف وراء الإضطرابات في شوارع موسكو ، وبأنها لا تريد الإنتخابات بل الفوضى وتحريك الشارع . 

في هذا الجو المحتدم ، الذي يخيم على الأجواء الداخلية في أنحاء روسيا ، وليس في موسكو وحدها ، وجد "مركز ليفادا" لاستطلاعات الرأي الوقت مناسباً لنشر نتائج بحث قام به حول رأي الروس ببقاء بوتين في السلطة بعد انتهاء عهده العام 2024 . وتحت عنوان "روسيا أخذت تتعب من بوتين ، خاصة موسكو" نقلت صحيفة القوميين الروس المذكورة عن هذا البحث إشارته إلى أن أكثر من ثلث الروس (38%) لا يريدون بقاء بوتين في السلطة بعد العام 2024 . وتقول الصحيفة أن هذا الرقم قد قفز بمقدار 11 نقطة مئوية خلال السنة الأخيرة ، لكنه لا يشكل رقماً قياسيا ، إذ لا يزال دون النسب ، التي سجلت في العامين 2012 – 2013 ، حيث بلغت حينها 45%. 

وتقول الصحيفة ، أن بوتين نفسه لا ينوي ، على الأغلب ، البقاء رئيساً بعد انتهاء عهده الرابع . ونقلت عن "Bloomberg" قولها ، أن بوتين قد يبقى في السلطة بعد انتخابات 2024 كرئيس للوزراء ، بعد توسيع صلاحياته على حساب الرئيس. وتنقل الصحيفة عن الوكالة قولها ، بأن الكرملين عازم على تغيير قانون الإنتخاب ، بما يخفض من عدد نواب الدوما وفق اللوائح الحزبية ، وزيادة عدد نواب الأقاليم ، كنواب مستقلين . 

لكن المحللين السياسيين يرون، حسب الصحيفة ، أن خطة الكرملين هذه تشكو من خلل يتمثل في أن خروج بوتين من موقع الرئاسة ، سوف يؤدي إلى تبدل جذري في النخبة الروسية . فخلال سنوات حكمه أفرغ بوتين الساحة السياسية كلياً ، وخلق فراغاً سياسياً ، بحيث أن روسيا تبدو حالياً فارغة من القادة السياسيين والأحزاب الفاعلة ، التي بمكن أن تشكل منافساً فعلياً للرئيس ومحيطه . وليس السبب في ذلك ، برأيها، هو خلو روسيا من الأكفاء والنزيهين والمحترفين ، بل السبب في الضغط ، الذي يمارس على كل من يبرز في الفضاء العام ، مما خلق لدى الروس شعوراً بأن "لا أحد سوى بوتين" .

وتحذر الصحيفة من هذا "الشعور السيئ" ، الذي ينطوي ، في حال خروج بوتين من الكرملين ، على إمكانية القفز إلى "السلطة التائهة" ، من قبل الطارئين "المستعدين لكل شيئ" . وليس فائض العنف ، الذي استخدم ضد احتجاجات موسكو ، أمراً طارئاً ، بل هو نهج ثابت لسلطة الكرملين الراهنة ، ولن يشهد سوى التصعيد في استخدامه من أجل تكريس شعار "بوتين أو لا أحد" ، الذي نعرفه في المنطقة جيداً . 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024