يمشون في جنازة بيروت

مهند الحاج علي

الجمعة 2020/08/07
149 شهيداً وآلاف الجرحى وتدمير كامل لمرفأ العاصمة، ومناطق تجارية وسكنية بأسرها. هذه هي حصيلة التفجير لكن الطبقة السياسية بأركانها تُواصل عملها بالأسلوب ذاته، عبر تقاذف الاتهامات، وحرف المسؤولية و"التنكر". 

وهذا التقاذف غير منطقي نظراً لطول أمد بقاء المتفجرات في مرفأ بيروت. منذ رست باخرة المواد المتفجرة في مرفأ بيروت بتاريخ 21/11/2013 وحتى انفجرت يوم الثلثاء الماضي، مر على لبنان رئيسا جمهورية و4 حكومات وبرلمانان (برئيس واحد أبدي). وبالتالي، تشمل المسؤولية عن هذه الجريمة، الطبقة السياسية بأسرها من دون استثناء.

لكننا وبعد أيام على تفجير الثلثاء، نقف أمام الممارسات السياسية ذاتها، ولغة مماثلة لما نسمعه لتبرير الفشل في إيصال الكهرباء والمياه الى بيوت الناس، أو في ملف النفايات. وهذا نهج في المماطلة والمماحكة السياسية، بعيداً عن أي محاسبة مهما كان مستواها، لا يتوقف عند العجز عن معالجة أزمات الناس وادارة حياتهم العامة، بل يشمل قتلهم بالإهمال الرهيب أو في إطار الصراعات السياسية المحسوبة. 

حال اللبنانيين اليوم تحت حكم هذه الطبقة السياسية يُشبه واقع المقيمين بمعسكرات الاعتقال، ممن أنهكهم عُسر الحياة اليومية في ظروف مستحيلة، لكنهم عند الحراس مجرد أرقام قابلة للتضحية متى أرادوا.

اللبنانيون سجناء، وكل حديث عن الديموقراطية والانتخابات، تافه وغير واقعي. الانتخابات تنافس بهوامش بين زعماء الطوائف بعد اتفاقهم على قانون يُحاك بناء على مصالحهم. قد يتقدم محور على آخر ضمن هذا الهامش، كما حصل مع "حزب الله" وحلفائه في الانتخابات الأخيرة، لكن هذا النادي غير مفتوح لغرباء من خارج الطقم السياسي المعتاد. هناك لغة وثقافة متدنية للسياسة في لبنان، ولا مكان لمن لم يتعفن في أحزابها ودهاليزها.

والدليل أننا اليوم أمام طبقة سياسية تُعاود عملها التخريبي كالمعتاد بعد تدمير العاصمة بأسرها وبلمح البصر، دون أي تحمل للمسؤولية من أي طرف كان، سوى أكباش محرقة صغار لا أهمية لهم في المعادلة السياسية.

والطبقة السياسية تمارس الطقوس ذاتها في الأزمات على اختلافها. أولها إعادة الانقسام السياسي القديم بينها إلى الواجهة، كونه الأضمن لشد عصب الأنصار وإخافتهم من الآخر. لهذا يتحدث اليوم "حزب الله" عن محاولة انقلابية سرّعها الانفجار، لكن كان مخططاً لها بعد صدور حكم المحكمة الخاصة بلبنان في قضية اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. و"الإنقلاب" في قاموس "حزب الله"، هو ضد انتخابات عام 2018، والغالبية الموالية التي جاءت بها. لا يعترف "حزب الله" بشراكته الطبقة السياسية وحمايته لها في ممارساتها، ولا يقر بأثر سلاحه ومغامراته الخارجية على علاقات لبنان بالعالم الخارجي. كل ذلك لا يدخل في حسبانه، إذ لا يعترف سوى بالمؤامرات الخارجية.

والحديث عن انقلاب على نتيجة الانتخابات بدأ غداة انتفاضة العام الماضي، إذ اعتبرها "حزب الله" محاولة في الشارع لانتزاع الغالبية منه ومن حلفائه. لكن اللافت أن الطرف الآخر لم يكن بعيداً في عدائه للانتفاضة، إن كان سعد الحريري الذي هاجم أنصاره المنتفضين في أكثر من مناسبة كان آخرها قبل يومين، أو وليد جنبلاط الذي يقمع حزبه كل معتصم أو متظاهر في الجبل، بالضرب المبرح والتهديد.

مقابل الانقلاب، هناك الحديث المُضخم أيضاً عن سيطرة كاملة لـ"حزب الله" على كل شيء، من المرفأ والمطار والحدود البرية، إلى الأجهزة الأمنية وحركة الملاحة الجوية والبحرية. التنظيم يُسيطر على كل شؤون الدنيا. وهذه السيطرة الكاملة (المفترضة من قوى 14 آذار)، المقصود منها إبعاد أي مسؤولية عنهم في الخراب الحاصل. لم تتسبب ادارتهم غير المسؤولة للشؤون المالية والاقتصادية ومؤسسات الدولة، بأي ضرر، بل تقع كامل المسؤولية على "حزب الله" وسلاحه.

ثاني هذه الطقوس وأهمها هو التنكر بلباس المعارضة والتنصل من السلطة والمسؤولية. اللافت أن كلا الطرفين، وهما واحد في المسؤولية، يتنكران. الجميع يُدين "السلطة"، لكنهم جميعاً يصفون أنفسهم بأنهم خارجها. "حزب الله" يدعي مباشرة وعبر أبواقه الإعلامية، بأنه خارج السلطة ولم يدخلها سوى قبل 15 عاماً ببضعة وزراء. "التيار الوطني الحر" يتحدث باللغة نفسها، بوصفه لاعباً من خارج الفريق التقليدي. ووليد جنبلاط الذي قال إنه "لا يثق بالسلطة"، شارك في كل الحكومات منذ اتفاق الطائف. وبقية قوى "14 آذار" سابقاً ومنها "المستقبل" تتحدث بلغة المغلوب على أمرها، إذ يُلام "حزب الله" بالكامل كونه "خطف" الدولة بسلاحه.

الحقيقة أن كل الادعاءات السياسية المدعومة بالقنوات والاذاعات والمواقع الإعلامية المحسوبة على طرف دون آخر، هي إما كاذبة أو منقوصة تُقدم نصف الحقائق للناس. كل الطبقة السياسية بجميع مكوناتها مسؤولة بنسب متفاوتة عن جريمة يوم الثلثاء. 

لكنهم اليوم وبعدما قتلوا الناس بالإهمال والفساد،ها هم يتنكرون ويتنصلون من المسؤولية كالعادة. قتلوا بيروت يوم الثلثاء ويمشون اليوم في جنازتها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024