مجتمع في زجاجة بيرة

محمد خير

السبت 2017/05/20
تقول الإعلامية: "لكنك حين نشرت هذه الصورة التي تشرب فيها الخمر في انستغرام، ألم تعمل حساب المجتمع؟". يجيبها الفنان أحمد الفيشاوي: "لقد التقطت لي هذه الصورة وأنا في وسط المجتمع بالفعل، إنها ليست صورة أقف فيها وحيداً، هذا هو المجتمع المصري وفيه من يشرب (الخمر)، هناك من يجد مشكلة في أن تلتقط له صورة وهو يشرب كأساً من النبيذ، لكن هناك من ليس لديه هذه المشكلة، ليس أنا فحسب، بل ملايين المصريين".

الأرقام تؤكد ما قاله الفيشاوي الصغير، إذ تمثل الخمور 85% من أرباح شركة "مصر للأسواق الحرة". وعلى الرغم من القيود الحكومية الكبيرة على إعلانات الخمور، والضرائب المرتفعة وصعوبة استخراج "تصريح بيع كحوليات"، إلا أن الخمور لم تواجه قط ركوداً في مصر، لا سيّما البيرة المحلية "ستلا" والنبيذ المصري. أحد المشاهد المألوفة مصرياً هي الطوابير الطويلة أمام محلات الخمور فور انتهاء شهر رمضان أو في احتفالات رأس السنة، الأفراح (الأعراس) الشعبية –التي يتخفف فيها المصريون عادة من بعض تقاليدهم- موسم دائم لازدهار "صناديق" البيرة (يمكن رؤية هذا المشهد مراراً في أفلام السبكي)، هذا إذا لم نتطرق إلى حجم المبيعات في الأوقات التي تزدهر فيها السياحة الأجنبية. حتى الحصيلة الباهظة التي تحققها الدولة من ضرائب الكحوليات لا تمثل سوى جزء بسيط من حجم تجارة واستهلاك الكحوليات، لأن القيود والضرائب وشبه الاحتكار من قبل شركة واحدة كبرى تتحكم في السوق قد تسبب ازدهار التهريب. وبالاستناد إلى الأرقام الرسمية، فإن عدد تراخيص بيع الكحوليات هو حوالى 1000 تصريح في مصر كلها، أي حوالى رخصة أو محل واحد لكل 90 ألف مصري. هذا رقم محدود، لكنه لا يعبر عن كل الاستهلاك. رقم محدود، لكنه ليس بالغ الصغر ولا يجعل مَن "يَشرب" شخصاً نادراً أو عجيباً.

غير أن أحمد الفيشاوي، وهو فنان موهوب اعتاد إثارة الجدل والغضب والإعجاب، لم يكن يناقش اقتصاديات الكحول وضرائبها، بل تكلم بصراحة طبيعية ونادرة، عن الوسط الطبيعي الذي لا يعيش فيه الفنانون فحسب، بل كثر من المصريين. وفي الصورة التي نشرها في انستغرام وعرضها برنامج "أنا وأنا" للإعلامية سمر يسري، بدا مبتسماً وممسكاً بعنق زجاجة خمر – تبدو بيرة- لا تظهر بأكملها في الصورة. وفي الصورة نفسها، يجلس بجواره صديق، يليه الفنان (والده) فاروق الفيشاوي. غير أن الفيشاوي الصغير كان الوحيد الذي أمسك بزجاجة في الصورة، فأثار الاستياء والغضب. لقد كسر التواطؤ الجمعي، الذي يمارسه معظم الناس (ولا يشترط أن يكونوا فنانين) في مواقع التواصل الاجتماعي، تواطؤ مفاده "عِش حياتك لكن لا تضعها في فايسبوك"، أو انستغرام في حالة الفيشاوي.

في العام 1987 حققت مسرحية "ع الرصيف" لسهير البابلي وحسن عابدين، نجاحاً كبيراً، تبقّى من المسرحية اليوم مقطع كثير "المشاركة" في مواقع التواصل، تظهر فيه البابلي وهي تعد كوباً من القهوة، وتقول: "سنة 1980 قالولنا هتطلعوا من عنق الزجاجة. (الجمهور يضحك). تتابع سهير: لكن احنا مارضيناش. يسألها حسن عابدين (ليمهّد لها الإفّيه): ما تعرفيش ما رضيناش ليه؟ فتجيب سهير: قلنا نطلع ليه؟ خلينا في قعر الزجاجة أحسن (يضحك الجمهور) وتتابع سهير: ما صدّقوا اننا قعدنا، جابوا الفلّة (الغطاء) وقفلوا علينا الزجاجة (ينفجر الجمهور بالضحك)".

رحل حسن عابدين بعد أقل من عامين على انتهاء عروض المسرحية، واعتزلت سهير البابلي وارتدت الحجاب وتدّينت. وازدادت الزجاجة -الاقتصادية -ضيقاً، ومع ذلك فإن زجاجة البيرة تثير غضباً أكبر لدى البعض.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024