مصر في نسخة أميركية: أكبر مجمع سجون

شادي لويس

الأربعاء 2021/09/22
لدي إقتناع بأن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يتكلم على سجيته في أحادثيه العامة، يقول ما يقتنع به حقاً، بلا حاجة إلي تزويق أو مراوغة. هو لا يكذب أو بشكل أكثر دقة لا يحتاج إلي الكذب. بل على العكس لطالما وضع الرئيس قناعاته داخل صياغات صدامية من دون تحسب لردود الفعل. خليط من ثقة كبيرة في الذات وشعور طاغ بالواجب يشكل هذا النوع من الصدق.

يكون حديث الرئيس أكثر أريحية حين يتكلم إلى الجمهور مباشرة، من دون الرجوع إلى خطب مكتوبة، فتلك النصوص المنمقة لا تتجاوز في العادة القوالب المحفوظة، أي لا تقول شيئا محدداً. ورغم ما قد يبدو على أحاديث الرئيس العفوية من تفكك، بفعل قفزاتها المفاجئة وتناقضات تلغي بعضها البعض، فإن التدقيق فيها بقليل من التأني، يعطي صورة لما يفكر فيه الرئيس ونوايا الدولة، بصورة أوضح كثيراً من البيانات الرسمية.

يوم الأربعاء الماضي، وفي نهاية مداخلة هاتفية مع برنامج "التاسعة" على القناة الأولى في التلفزيون الرسمي، كشف الرئيس بشكل تفصيلي عن قناعاته حول ملف حقوق الإنسان وتوجهات الدولة بشأنه مستقبلاً. لا يلجأ السيسي إلي حجة الخصوصية الثقافية في نقده للخطاب الحقوقي، فرفضه للتعريف الغربي لحقوق الإنسان، لا يأتي باسم النسبية المحلية، بل بدعوى الشمول. فالحقوق السياسية والمتعلقة بالعمليات الديمقراطية قاصرة عن الإلمام بالحاجات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، الأكثر إلحاحاً.


يقدم الرئيس طرحاً جديراً بالاعتبار، فهو لا يتذرع بأولوية الحقوق المادية على السياسية، بل يذهب ضمنياً إلي أن السياسي ما هو إلا بنية عليا، يتأسس على بنىً أكثر مادية. في حديثه الهاتفي، يوسع السيسي من مفهوم حقوق الإنسان، ليشمل مثلاً حق النساء في الحركة في الحيز العام، من دون مضايقات، ولا يجانبه الصواب في هذا. ثم يعود ليقر بأن مهمة حماية حقوق الإنسان بمعناها الشامل تقع على عاتق الدولة حصراً، ويعترف أيضاً بعجزها عن الوفاء بدورها هذا على أكمل الوجه.

في السياق نفسه الذي لم تفسده الاستطرادات العفوية، يضع السيسي سببين لهذا العجز، فكما يقول لا يوجد أحد يمتلك مفتاحاً بمجرد إدارته يمكن إصلاح حقوق الإنسان. ثم يقدم ثلاثة عناصر تشمل الوضع الاقتصادي، الفقر تحديداً، والثقافة والسياق السياسي، شكلت جميعها عائقاً أمام تطور منظومة حقوق الإنسان. من ناحية أخرى، ورغم التأكيد على مسؤولية الدولة الكاملة، فإن الرئيس يعود ليذكرنا بأن ضباط الشرطة وضباط الجيش، ممثلي هذا الدولة وعماد مؤسساتها والقائمين على تفعليها، هم في النهاية جزء من المجتمع، ونتاج سياقاته ومنظومة قيمه.

إذاً كيف يمكن كسر تلك الحلقة المفرغة؟ إن كانت الدولة المسؤولة عن إصلاح المجتمع وضبطه، هي نفسها نتاج لهذا المجتمع؟

من دون مشقة الخوض في السؤال، يخطو الرئيس مباشرة نحو الحلول العملية. فهو يعلن عن افتتاح أكبر مجمع سجون في مصر من بين ستة أو سبعة مجمعات أخرى. ويقول أنها نسخة أميركية، من دون تحديد ما هو الأميركي فيها.

وفيما تظهر العلاقة بين بناء المزيد من السجون وبين حقوق الإنسان أمراً مثيراً للسخرية للوهلة الأولى، فإن السيسي يبين منطق تلك العلاقة على وجهين. فبالعودة إلي مثال حق المرأة في الفضاء العام بلا مضايقات، يؤكد أن حماية الحقوق تستوجب تطبيقاً حازماً ودقيقاً للقانون، المحاسبة والعقاب، فمهمة الدولة في هذا الصدد تتقاطع مع عمل مؤسساتها القسرية والضابطة. ومن جهة أخرى، يعتبر تكدس السجون أمراً واقعاً لطالما اشتكت منه الجهات الحقوقية. ولذلك فإن زيادة الطاقة الاستيعابية للمنظومة العقابية يعني بالنسبة لنزلائها ظروفاً أكثر "آدمية وإنسانية" بحسب وصف الرئيس، وأيضاً رعاية صحية وبدنية واجتماعية. وإضافة إلى ذلك، سيتم إلحاق مقار للمحاكم بتلك السجون بغية إعفاء المساجين من مشقة الترحيلات المتوالية لنظر قضاياهم في المحاكم. هنا يظهر الجانب الاقتصادي لمنظومة الحقوق الذي يقصده السيسي، لأنه من دون إمكانات وموارد، لا يمكن تمويل منظومة عقابية تعمل بشكل إنساني.

أكثر ما يلفت الانتباه في كل هذا، هو الإشارة الأميركية. تحظى منظومة السجون في الولايات المتحدة بالمرتبة الأولى من حيث عدد نزلائها على مستوى العالم، كما أنها تتربع بفارق هائل من حيث نسبة عدد السجناء مقارنة بإجمالي السكان في أي دولة أخرى. ولذلك تعاني سجون الولايات المتحدة من التكدس والازدحام الشديد وبالتبعية تدهوراً في مستويات العناية الصحية وحرمان السجناء من الكثير من حقوقهم الأساسية.

لا تحظى "النسخة الأميركية" بسمعة حسنة بأي حال، لا حقوقياً ولا من ناحية الكفاءة، فرغم الكلفة الهائلة، تظل معدلات معاودة الإجرام من ضمن الأعلى عالمياً. ولعل ما يجعل النموذج الأميركي جذاباً للنظام في مصر، هو أمر آخر لا يتعلق بحقوق الإنسان. فتوسع المنظومة العقابية الأميركية، في أحكام الإدانة والسجن قصيرة المدة، على جرائم غير عنيفة، وبلا ضحايا، تواكب مع تصاعد السياسات النيوليبرالية هناك. وكان انسحاب الدولة من وظائفها الرعائية، يعني مواجهة الاضطراب الاجتماعي بالاعتماد على مؤسسات الضبط والعقاب، وتضخيمها. فعلى سبيل المثال، عملت إحكام السجن الجماعية على مخالفات تعاطي المخدرات، كأداة لقمع الأقليات، السود واللاتينيين تحديداً، ومعهم الشباب العاطلون وسكان الأحياء الفقيرة.

لا شك لدي في أن الرئيس صادق في ما يقوله، فنية الدولة حاضرة لتحسين أوضاع منظومة السجون، على الأقل من الناحية المادية والتجهيزات، وكما يمكن التخمين من حديثه، فإن الغرض هو استيعاب الزيادة في أعداد المحكومين بفعل السياسات المزمعة لتطبيق القانون بحزم ودقة. وبالتوازي مع القمع السياسي، يدرك النظام المصري أنه لا يمكن موازنة الآثار السلبية لتخليه عن مهام الدولة الرعائية، ونفض يديه من ملفات الدعم مع معدلات التضخم العالية، سوى بالتوسع في قاعدة المنظومة العقابية، وتضمين المزيد من القطاعات السكانية داخل دائرتها الجنائية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024