حكامنا لا يعيشون معنا

مهند الحاج علي

الجمعة 2019/09/27
بماذا تُذكركم طوابير السيارات أمام محطات الوقود؟ الثمانينات؟ الحرب الأهلية؟ وماذا عن أزمة ارتفاع سعر الدولار بالسوق السوداء؟ هل تذكركم بأزمات الثمانينات وبداية التسعينات، أي الحرب الأهلية أيضاً؟

الحقيقة أن ما تشهده البلاد منذ أسابيع، لا يستحق سوى عنوان "أزمة". أسعار الاتصالات ترتفع، وستليها سريعاً مجموعة أخرى من السلع، ومن ضمنها الحاجات الأساسية للناس. سيشعر المواطن اللبناني بإفقاره تدريجياً. وواقع أن مواطنين يهرولون جماعياً لتكديس المال في منازلهم وملء خزانات وقود سياراتهم، دليل على شعور عام بهذه الأزمة، وبفقدان الثقة بالمسؤولين السياسيين. 

لكن مهلاً قليلاً. هل تشعرون بالأزمة على الصعيد السياسي؟ هل تحصل إجتماعات طارئة للقادة السياسيين في البلاد، بعدما قطعوا رحلاتهم الخارجية لبروز أولويات وطنية؟ أتلمسون إجراءات استثنائية لملمة الأزمة؟ الجواب هو كلا. ذاك أن المسؤولين اللبنانيين لا يعيشون معنا في هذا العالم. حرفياً، يعيش المسؤولون اللبنانيون في قصور تاريخية وحديثة وفيلّات فارهة معزولة عن الخارج بحكم مساحتها والإجراءات الأمنية حولها. إنها قصور عازلة عن الخارج والحاضر سوية، سيما لو أخذنا في الاعتبار أن المسؤول اللبناني يُحيط نفسه بحاشية من السياسيين الأتباع والمريدين والصحافيين اللاهثين وراء سيلفي هنا وصورة هناك.

وهؤلاء المسؤولون فعلاً غير حاضرين في الأزمة، بل يحتاجون إلى من يُبلغهم بوصولها، وبأنها طارئة وستنعكس عليهم وعلى سمعتهم وتاريخهم. ربما علينا إضافة هذه المهمة إلى دور "اليونيفيل"، كي ينقلوا الى القصور الرئاسية والفخامات والسياسيين في العائلة (الأصهار والأبناء والبنات)، إحداثيات اقتصادية واقتراحات للعمل. 

"حزب الله" يُقيم أيضاً على غيمة اقليمية، كما يظهر من خطابات أمينه العام، يُهاجم دولاً سبق أن أسعفتنا مالياً وقد تُساعدنا لولا هذا التورط الاقليمي. نصر الله يتوعد ويتحدث عن الحروب والمواجهات الاقليمية البعيدة، في اليمن والعراق، وكأنها أولويات لبنانية، قبل سعر الوقود (البنزين) والمازوت والقمح.

هذا الانفصام لدى حكامنا من عجائب السياسة اللبنانية. معقول أننا نمر بهذا الوضع الحساس، مالياً واقتصادياً، ولم يقطع رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره وزير الخارجية جبران باسيل وعشرات المرافقين لهم زيارتهم الى نيويورك خلال الأسبوع الماضي؟ 

المشكلة أن سلوك الطبقة السياسية اللبنانية هو أخطر ما في هذه الأزمة، ويؤكد بأن المخرج الوحيد المتبقي للبنان، أي الاسراع بالاصلاحات، لن يُبصر النور. ذاك أن المسؤولين الأوروبيين أكثر قلقاً من نظرائهم اللبنانيين، ويريدون انجاز موازنة عام 2020 بأسرع وقت لفك أموال "سيدر" وإطلاق عجلة النمو الإقتصادي.

من الصعب أن يحصل ذلك، والمسؤولون اللبنانيون ما زالوا في دوامة الصراعات الداخلية، والمحاصصة المقيتة (على جثة دولة). أليس غريباً ألا نرى تبدلاً في سياسة العهد حيال الخصوم، وترويض الأصدقاء أو الحلفاء لابعادهم عن جر لبنان إلى مواجهة جديدة؟

لم ولن يحصل ذلك. حتى الحديث عن إقرار موازنة 2020 قبل نهاية العام، ليس واقعياً، لأن أقطاب السياسة في لبنان يرون في الأزمة المالية الحالية فرصة للانقضاض على الخصم وكشف عيوبه، فكيف يُفوتونها؟ ذلك أن هذا السلوك اللامسؤول بات تراكمياً، كما حصل قبل شهور في خطة الطاقة (عدم اصلاح القطاع بشكل جذري وفقاً للمطلوب أوروبياً)، ومن ثم التأخر في إقرار الموازنة شهوراً طويلة، وتحويل جريمة قبرشمون إلى أزمة سياسية عميقة.

هذا سلوك أكثر تجذراً لدى الساسة اللبنانيين من الوعي المنشود، والمطلوب نظراً لعمق الأزمة المالية وأثرها المقبل في المواطنين. بدأت الأزمة اليوم بالوقود، وهي مقبلة بحسب المؤشرات على القمح والخبز، أي أنها ستمس الأمن الغذائي للناس في حال تفاقمت ولم يحصل تحرك على قدر من المسؤولية. حينها، سيتفجر غضب الشارع، وتنتشر الفوضى ويعود زعماء الطوائف لممارسة هواياتهم المفضلة: التحريض ضد الآخر، ولوم الخارج وتأليف المؤامرات. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024