دينامية مجتمعية مهددة بالاغتيال

وجيه قانصو

الأحد 2019/10/20

عاد المشهد اللبناني الجامع من جديد. لم يكن هذه المرة سياسيا مثلما كان في حدث 14 آذار، ربما لأن اللبناني بات يَحذر من القوى السياسية التي اختطفت المشهد وجوفت تطلعاته وحولته إلى مركزيات سلطة وشخصنة حادة . ما جمع المتظاهرين هو الوجع والألم والقلق على المصير والتوجس من الآتي، بات هذا هو الوحيد العابر للطوائف، ليس اللبناني السياسي أو الطبقي أو الطائفي بل الإنسان اللبناني، الباحث عن أمنه ، الراغب في صنع مصيره، والممجد لكرامته وهويته. تبين أن هذا الإنسان واحد في كل لبنان، وأن كل ما أضيف إليه من هويات طائفية وعرقية هي صناعة فاسدة، أمان كاذب، شعور قوة خادع.  بل تبين أنها هويات حجَّمت مدى وجوده وباتت عبئاً عليه. ما حصل لم يعرِّ النظام في رموزه الحالية فحسب، بل في أصل تركيبته التي تفننت في اصطناع الفواصل والمخاوف بين اللبنانيين والتي كانت أساس الانتظام العام لقرن من الزمن.

نظّر كثيرون عبر وسائل الإعلام على أنها مظاهرات فاشلة لأنها لا تحمل برنامجا أو خطاباً سياسياً، من دون أن يلتفتوا إلى أن القضية ليست قضية برنامج بل تغيير كامل لقواعد اللعبة. وسارع آخرون إلى الإنضمام إلى المتظاهرين كي لا لا يكونوا على لائحة الملعونين، لكنهم بذلك أثبتوا وأكدوا هامشيتهم في صنع الحدث. بيد أن الأكثر استفزازاً هو موقف السلطة الذي مثله باسيل والحريري، بالقول أن مطلب المتظاهرين كان أساس برنامجهم ومشروعهم السياسي، وأن مصالح القوى الداخلية والتدخلات الخارجية حالت دون تحقيقه. للأسف ما يزال كلامهم كلام الراعي الذي يخاطب القطيع، يتكلمان برموز وبصفتهم عرفاء بخفايا لا يفهمها عوام الناس، يحيلان المسؤولية إلى الغير من دون أية مصارحة أو اعتراف بالخطأ.  كلام الإثنين يشي أن ذهابهم هو نهاية للبنان وأن خلاص لبنان لا يمر إلا بهم وإلا فإن الفوضى ستكون مصير لبنان المحتوم. مارسوا استخفافا فاضحا بعقول الناس ووعيهم، لم يدركوا أن الجمهور في الشارع ليس حشدا انتخابياً، لم يأت ليبايع وينتخب من يمثله وينطق بإسمه، بل جاء ليحاسب ويسحب المشروعية من الجميع في النطق بإسمه.

فشلت السلطة في إدراك حصول انزياح واضح عن نقطة التوازن بين المجتمع والسلطة الحاكمة، حيث باتت سلطة الدولة عاجزة عن الاستجابة إلى تطلعات أفراد المجتمع وتوقعاتهم، وأخذت شرعية هذه السلطة تتآكل في أذهان أفراد المجتمع.  وصل تخلف السلطة عن المجتمع اللبناني الجديد إلى حد أنها فقدت القدرة على التقاط حقيقة وطبيعة التحرك الجديد، وباتت تخاطب المجتمع بعقل ساذج، ولغة متعالية.    

من المؤكد أننا أمام موجة جديدة أبعد في طبيعتها ومنطقها عن موجة 14 آذار في العام 2005، السابقة كانت تبحث عن قائد يختزلها أما الحالية فقد استغنت عن أية مرجعية لها واتخذت شكل ارتباط أفقي لا مكان للقائد فيها. السابقة استعانت بالعصبية الطائفية وسيلة للتعبئة أما الحالية فقد اتخذت الشرط الإنساني أساسا لانتظامها الجديد. السابقة نبذت الوصاية الخارجية أما الحالية فقد تمردت على الوصاية الداخليةـ  السابقة كان غرضها بناء شراكة سياسية انتهت بلعبة تسويات كارثية تمت تسميتها تضليلاً بالديمقراطية التوافقية، أما الحالية فتريد تغيير كامل الجهاز السياسي في مسعى لتغيير قواعد اللعبة. النهاية المنطقية للسابقة تضامنات طائفية حديدية وزبائنية سياسية، أما الأفق المنطقي للحالية فهو ظهور تضامنات عابرة للطوائف ومتحدات سياسية تتخذ الشرط الإنساني مرجعية محورية لخطابها.   

 بعبارة أخرى، نحن أمام دينامية مجتمعية جديدة تحمل معها إمكانات وآفاق واعدة، لكنها دينامية تنتظر شروط إمكانها، أي الشروط التي توفر تحققها الموضوعي لتشكل أساساً للإنتظام السياسي الجديد. هي شروط ما تزال هشة، وغيابها أو تغييبها المنظم والملتف عليها يهدد لا بإجهاض هذه الدينامية فحسب، بل باغتيال المجتمع اللبناني نفسه. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024