خدّام..وصمة الذاكرة اللبنانية

ساطع نور الدين

الأربعاء 2020/04/01
على جبين كل لبناني، مهما كان إنتماؤه الطائفي أو السياسي، وصمة عار لن تُمحى بسهولة، ولن تغتفر. وهي تتمثل في العقد الذي ربطه بالنظام السوري، القائم منذ مطلع سبعينات القرن الماضي وحتى اليوم.

تلك الوصمة السوداء تعزى في المقام الأول إلى الخلل العميق في التكوين الوطني اللبناني، وإلى العصبية الوطنية المفتقدة طوال الأعوام المئة الماضية، وما قبلها.. وهو ما كان، ولا يزال، سبب العجز الدائم عن إقامة دولة قانون ومؤسسات طبيعية، قبل أن تدخل سوريا الأسدية، وتتدخل وتقيم وترسم في الجسم اللبناني معالم لا تزول.


لم تكن سوريا الأسد، أفضل تكويناً وأرقى تشكيلاً أبداً، لكن القليل من سوء الحظ معطوفاً على الكثير من سوء التقدير والتدبير اللبناني، أتاح لها الفوز بالوصاية على لبنان، بعدما كانت قد ساهمت بالفعل في تحويله إلى ساحة مواجهة ومساومة رئيسية ووحيدة في الصراع مع العدو الإسرائيلي. منذ أن أجبرت المقاومة الفلسطينية على التخلي عن خيار اعتماد جبهة الجولان، واستبدالها بجبهة العرقوب التي امتدت في ما بعد لتشمل جميع الأراضي اللبنانية.. ما أشعل نار الحرب الأهلية القذرة، واستدعى الدخول المشؤوم للجيش السوري إلى لبنان.

لا يمكن لأي لبناني أن يتبرأ من هاتين المسؤوليتين. والواقع أن نصف اللبنانيين، لا يطلبون البراءة، بل ما زالوا حتى اليوم فخورين بتلك العلاقة المشينة التي ربطت لبنان بسوريا الأسد، بناء على معطيات آخرها ما يردده حزب الله مثلاً عن "العمق الاستراتيجي السوري" للمقاومة، وعن "الضرورات" التاريخية (والجغرافية) التي تحتم العلاقة الطبيعية مع الجار الشرقي.


لم يكن عبد الحليم خدام الذي رحل بالأمس صانع الخيار الأول لسوريا الأسد بإبعاد المقاومة الفلسطينية إلى لبنان، يومها كان يشغل رتبة محافظ (حماة ثم حلب) في النظام، ولا كان محبذاً للخيار الأخير بتحويل لبنان إلى جبهة حرب مفتوحة مع العدو، بدليل أنه إنضم إلى المشروع السعودي-الحريري، الذي يوفر بديلاً لتلك الجبهة، من دون أن يقفل استثماراتها، وبدليل كتابه الأخير عن "التحالف السوري الإيراني والمنطقة" (العربية كما يقصد ولا يبوح) والذي يفتح نقاشاً بارداً حول  ذلك الحلف، من دون أي ودٍ خاص، ومن دون أي مسٍ بقداسة ذلك الحلف العميق، الذي لا يزال حتى اليوم يشكل شريان حياة للنظام، لم يستطع فكّه أي من العرب، برغم الكثير من المغريات والوعود على مدى واحد وأربعين عاماً، من عمر الدولة الخمينية.

لكن خدام الذي أنتقاه الأسد الأب مثل بقية شركائه السنّة، من الأطراف، أو بالأحرى من خارج دمشق وحلب، حلق بسرعة فائقة في داخل هيكلية النظام السوري، بناء على كفاءته المميزة ، الموجودة أصلاً في الشخصية السورية، بالمزايدة على بقية العرب لا سيما الفلسطينيين والعراقيين والأردنيين وحتى المصريين، إلى حد المهانة، ثم بناء على تجربته الخاصة في إدارة الإنفجار اللبناني المدوي.


في تلك التجربة المزدوجة، كان خدام الناطق الرسمي الفظّ بإسم النظام، الذي لم يسلم من لسانه أي من العرب، ولا سائر اللبنانيين طبعاً، بعكس خليفته في وزارة الخارجية أو في نيابة الرئاسة فاروق الشرع، الذي كان يعارض شد شعرة معاوية مع العرب، وإرخائها مع إيران، وكان يعتبر لبنان صداعاً سورياً مزمناً ينبغي إتقاءه.. وظل يتميز عن خدام بموقف عاقل نسبياً من المعارضين السوريين.  

الازدواجية كانت جزءاً من تكوين خدام السياسي، الذي أنهى حياته في المنفى، من دون أن يصبح معارضاً أو حتى خارجاً على النظام الذي أنتجه، ولم يحفظ له أي من العرب تاريخه "القومي"، مثلما لم يحفظ له أي من اللبنانيين سوى بعض العطف الشخصي المستمد من علاقات قديمة مع ثلاثة زعماء، رفيق الحريري ونبيه برّي ووليد جنبلاط، شعر خدام أن الأسد -الأب والأبن- ظلمَهم حتى قتل أحدهم.


من الذاكرة اللبنانية، لا مجال للكثير من التباهي أو التغاضي عن دور خدام. اللبنانيون جميعاً من دون استثناء تورطوا - بدرجات متفاوتة - بالتواطوء معه على سواهم من أبناء وطنهم المريض. الميزة الوحيدة للرجل هو أنه كان آخر المدنيين السوريين الذين تولوا مسؤولية "الملف" اللبناني، بعده إجتاح الضباط ذلك الملف ومزقوه شر تمزيق.. حتى صارت وصمة العار اللبنانية، لطخة سوداء أبدية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024