إيران تخفق بإنكار الأزمة

حسن فحص

الأربعاء 2019/04/24

تشهد الساحة الايرانية، خصوصا الاوساط المحسوبة على النظام والتيار المحافظ حالة من عدم الرضا امام ما تسمعه من تصريحات تصدر عن مسؤولين كبار في النظام وفيها الكثير من الاستخفاف بالعقوبات الامريكية التي اعلن الرئيس دونالد ترامب عن عودتها قبل نحو سنة.

ارتفاع الاصوات المعترضة يأتي بعد ان بدأ المجتمع الايراني بكل مكوناته السياسية والاجتماعية وحتى الحكومة بتلمس الاثار السلبية لهذه العقوبات على الحياة اليومية، خصوصا في ظل ما تشهده ايران من ازمات تتصل بتأمين القوت اليومي للمواطنين، بالتزامن مع ارتفاع مستوى التضخم وتراجع قيمة العملة الوطنية وتدني القدرة الشرائية، اضافة الى فقدان الكثير من المواد الاولية من اللحم والدجاج والبيض من الاسواق وارتفاع اسعارها بشكل جنوني. وبعد ان عادت الى المشهد اليومي طوابير المواطنين للحصول على هذه المواد باسعار مدعومة من الحكومة.

خطيب صلاة الجمعة في طهران والمعين من قبل المرشد الاعلى كاظم صديقي، اعاد الذاكرة الايرانية الى مرحلة الرئيس السابق محمود احمدي نجاد واسلوب تعاطيه مع القرارات الدولية والعقوبات التي سبق ان فرضها مجلس الامن الدولي ضد ايران عام 2006، عندما وصفها بـانها "زبالة" (اوراق ممزقة ومهملة)، وقد شكل سابقة في تعامل واحدة من دول العالم مع القرارات الدولية، على العكس مما كان متوقعا ومتعارف عليه لدى النظام الايراني الذي سعى الى تكييف تصرفاته ومواقفه بما يتوافق مع المجتمع الدولي، خصوصا عندما اعلن التزامه بميثاق الامم المتحدة بعدما رفع احمدي نجاد عقيرته بالدعوة الى ازالة اسرائيل من الوجود.

وتعتقد هذه الاوساط ان استعادة خطيب الجمعة لنهج احمدي نجاد في التعامل مع العقوبات الامريكية، يأتي متعارضا مع مصالح ايران القومية، خصوصا وان التجربة الماضية و"عنتريات" احمدي نجاد امام العقوبات والقرارات الدولية لمسها الايرانيون بشكل واضح وجلي عشية المفاوضات حول الملف النووي والدور الذي لعبته الاثار السلبية لهذه العقوبات على المفاوض الايراني ودفعت النظام للجلوس الى طاولة المفاوضات.

وفي موقف مشابه قال صديقي ان العقوبات هي " امتحان إلهي.. عندما تزداد الآلام تقترب الولادة، والله يريد ان يمتحنا بالضغوط الدولية " مستشهدا بقول الجنرال قاسم سليماني " عندما تزداد الضغوط يزداد املنا بولادة جديدة" وهي مواقف تستعيد الماضي عندما وقف احمدي نجاد وخاطب المجتمع الدولي بالقول "هل تعتقدون انكم اذا اجتمعتم واصدرتم هذه الزبالة تستطيعون ان تقفوا بوجه الامة الايرانية، لقد عارضتمونا لمدة 28 سنة، حاصرتمونا اقتصاديا، فرضتم العقوبات والضغوط السياسية، لكن الأمة الايرانية اصبحت اليوم نووية، واذا اعدتم الكرة فستشاهدون نتيجة ذلك، وعليكم ان تعرفوا ان تصرفاتكم هذه لن تؤثر على ارادة الامة الايرانية".  كانت النتيجة اجماعاً دولياً، وليس امريكياً فقط، على تشديد العقوبات والمزيد من الضغط الدولي، وبالتالي انتهى الى ان اجبار ايران على تفكيك اجزاء اساسية من برنامجها النووي وتقديم تنازلات من دون الحصول على مزايا كانت تتوقعها جراء التوقيع على الاتفاق النووي.

واذا ما كان كلام صديقي (خطيب الجمعة الرسمي) يمثل نمطا من التفكير والتعامل داخل النظام، الا انه لم يعد مقبولا حتى لدى شريحة واسعة من المحافظين الذين بدأوا يشعرون بالانعكاسات السلبية لهذه العقوبات وهذا النمط من التعاطي على بقاء واستمرار النظام، ما يستدعي التوافق على اسلوب في التصدي لهذه العقوبات والتعامل مع المجتمع الدولي على اسس يقبلها هذا المجتمع ضمن الاطر القانونية والاساليب المتعارف عليها من اجل الوصول الى مرحلة تكون ايران قادرة على التقليل من اثار هذه العقوبات.

هذا النمط من الاستخفاف بالعقوبات واثارها، لا يساهم، حسب اعتقاد هذه الاوساط، في التقليل من الاعباء التي تتزايد على كاهل المواطن الايراني، بل يمكن اعتبار هذا الامر يصب في الخانة التي يريدها الطرف الاخر الذي فرض العقوبات، والتي تعزز لديه التشدد بالمزيد من محاصرة ايران وتضييق الخناق عليها بكل الاتجاهات، ما قد يوصلها الى تقديم تنازلات مؤلمة وقاسية نتيجة عدم الاعتراف بصعوبة المرحلة وآثارها على افراد المجتمع الايراني.

فالفرد الايراني هو الاكثر الذي يلمس ويشعر باثر العقوبات، وعلى الرغم من أن الحكومة حاولت التخفيف من الاثار السلبية للعقوبات على السلة الغذائية، خصوصا ما يتعلق بتأمين وتوفير مادة "اللحم" الا انه بات يخاف من دخول محال القصابين والمطاعم حتى الفاخرة منها، لانه بات لا يأمن ان يكون اللحم المعروض يعود الى "الحمير" او نفايات الدجاج، وقد وصلت درجة الخوف من اللحوم الفاسدة مستويات غير مسبوقة نتيجة ما يعلن عنه يوميا من اقفال لمحال بيع اللحم وبعض المطاعم التي تبيع لحم "الحمير" في ظل حديث عن سرقات كبيرة وواسعة طالت الاموال التي خصصتها الحكومة لاستيراد الدجاج والاغنام والابقار من الخارج والتي وصلت الى  اكثر من ثلاثة مليارات ونصف المليار دولار (3.5 مليار دولار) اضافة الى تهريب بعضها الى الخارج.

يبدو ان الاصوات التي تدعو الى التقليل من اثر العقوبات لم تعد مقبولة لدى جميع شرائح المجتمع الايراني، حتى تلك التي تعتبر من خطوط الدفاع عن النظام وسياساتها ومواقفه، وقد تشكل مؤشرا على تصاعد حدة المواقف التي تدعو الى العمل من اجل التوصل الى تسويات تخرج ايران من عنق الزجاجة في ما يتعلق بازماتها الداخلية التي تفاقمت مع ما تتعرض له البلاد من خسائر كبيرة جراء الفيضانات والسيول، وان كان الاعتقاد سائدا لدى كل الاطراف ان هذه العقوبات هي نتيجة للتوسع في الاقليم ومن اجل الضغط على طهران لفرض تسويات في ملفات المنطقة، الا ان الاستمرار في التعنت وعدم الاعتراف بالازمة قد يطيح بالداخل والخارج معا.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024