أزمة خليجية من الماضي

ساطع نور الدين

الخميس 2020/06/04
لم يعد الحصار المفروض وغير المبرر على قطر منذ ثلاث سنوات، والمحاولة الفاشلة لفرض الوصاية عليها، عنواناً أو حتى قضية، على الرغم من أنه كان ذروة افتراق سياسي خليجي، حول الربيع العربي، لا سيما تجربته المصرية المحبطة، قاد إلى ما يشبه الاشتباك المباشر الذي لم يؤد لا إلى نجاح الثورة المضادة التي قادها المحاصِرون الأربعة، ولا إلى صنع التغيير العربي الذي تؤيده الدولة المحاصَرة، ونقله من مرتبة النوايا والأحلام إلى مرتبة الأفعال والوقائع الراسخة. لكنه "نجح" في إلحاق الضرر بمجلس التعاون الخليجي.

لكن المفارقة أن الحصار الذي صار هامشياً في ظل أزمات أكبر وأخطر، من الإشتباك على جدارة الربيع العربي وجدواه، هو الآن علامة بارزة على قرب إنتهاء تلك الحقبة الخليجية التي إمتدت منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، مع تأسيس مجلس التعاون الخليجي، والتي شهدت إنتقال مركز صناعة القرار العربي، والإسلامي إلى حد بعيد، إلى تلك المنطقة المكتشفة حديثاً، بأموالها وأدوارها المبالغ بها.

اليوم باتت دول الخليج غارقة بالحروب والنزاعات والديون. الثروة تبخرت أو تكاد، والتوسع الذي بلغ ذروته في مطلع الألفية الثالثة بات يبحث عن سبل الخروج من المشرق العربي وشمال إفريقيا وحتى من الحد الجنوبي لشبه الجزيرة العربية، والعودة إلى داخل الحدود الخليجية، لمواجهة تحديات داخلية تكبر يوماً بعد يوماً.. يقع التحدي الايراني من ضمنها.

كان الحصار قبل ثلاث سنوات، تعبيراً عن تلك الحقبة الخليجية الآفلة التي هزها الربيع العربي بعنف، ولا يزال. كان نوعاً من الانكفاء السعودي الاماراتي إلى تدبير شؤون البيت الخليجي أملاً في تحقيق مكسب، في فرض الطاعة على الشقيقة الصغرى التي لطالما تميزت باستقلال قرارها وقوة إعلامها وحريته، بعدما سدت الأبواب أمام المكاسب المتوهمة وفروض الطاعة المكلفة في كل من مصر واليمن وليبيا، وقبلها في العراق وسوريا وتونس.

كان الحصار ولا يزال أشبه بنزاع عشائري  تطور إلى غزوة عرب هوجاء إنفعالية، ليس لها أساس ولا مبرر، سوى ركوب وهم القوة، في الوقت الذي كانت فيه تلك القوة تتآكل وتمضي في مسارها الانحداري السريع. كان الانحطاط بالنزاع إلى مستوى شق العائلات الخليجية الواحدة، أحد مؤشرات الخطر من جهة، والخفة من جهة أخرى.. وهو ما لم ينقصه سوى التلويح منذ اليوم الأول بالغزو العسكري لقطر، والذي ثبت أنه كان مجرد محاولة لإثبات الجدية والصرامة في التعامل مع الشقيقة الصغرى.

كانت دوافع الحصار مفتعلة، مثلما كانت مطالبه مضحكة. لم يكن يخطر في البال ان تطلب دول الحصار من قطر قطع علاقاتها مع تركيا، وتخفيضها مع إيران، أو أن تشترط إسكات الإعلام القطري.. كل ذلك تحت ذريعة وقف دعم الإرهاب. لكن ما كان ولا يزال خارج التصور هو أن تراهن الدول الاربع على أن أميركا، وهي دولة مؤسسات ومصالح وشركات وقواعد عسكرية، لا مجرد رئيس أحمق عديم المعرفة والكفاءة والخبرة شجّع على الحصار في البداية، يمكن أن تمضي قدماً حتى النهاية في تلك المغامرة السياسية المراهقة.

لكن أميركا نفسها، التي استعادت تدريجيا توازن موقفها من الحصار وتقدمت نحو الوساطة، لا يبدو، حتى الآن على الاقل، أنها قادرة على وقف تلك المغامرة، المبنية في جانب منها على الطبيعة القبلية للفراق. وهو ما كان على الأرجح سبباً في تعطيل مسعى أميركي جديد جرى في الأسابيع القليلة الماضية، وانتهى بورقة سعودية إماراتية تكرر المطالب الـ13 الشهيرة والمرفوضة من قطر، لكن بصياغة مختلفة يشوبها الالتباس.

ربما لم يكن ذلك المسعى الأميركي الأخير جدياً في الأصل، برغم أن مصدره البيت الأبيض نفسه. لكنه يعكس مرة أخرى ذلك التحول في الموقف الأميركي من رعاية الحصار ومباركته إلى التوسط لإنهائه.. حتى ولو كان من أهداف واشنطن الراهنة التجاوب مع نداء قطري للتعاون الخليجي في مواجهة جائحة كورونا، أو الاعتقاد الأميركي أن استعادة ذلك التعاون تسهم في تشديد الضغط على إيران!

ليس في الأفق حل للحصار، لا يعترف سلفاً بان الخليج العربي فقد موقعه ودوره وماله، ولا يقر بنهاية جميع المغامرات الخارجية الخائبة، التي جرت على مدى أربعة عقود.. ولم تكن معاقبة قطر سوى ذريعتها الأخيرة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024