توابيت مقدسة

أحمد عمر

السبت 2019/04/13

تقول طرفة شهيرة إنّ الرئيس الأمريكي نيكسون قال للرئيس السوفييتي بريجينيف مباهياً بأمريكا: إن أي أمريكي يستطيع أن يشتم الرئيس الأمريكي بحرية، فرد عليه الرئيس السوفييتي قائلاً: الروس أيضاً يستطيعون أن يشتموا الرئيس الأمريكي بحرية.

ليست إسرائيل وحدها الذي تقدّس رفات جنودها ومواطنيها، فالحكام العرب يقدّسون أحياء إسرائيل وأمواتها، وليس أولهم محمود عباس الذي تباهى بأنه وجد سبعين سكيناً في حقائب التلاميذ و"التلميذات" في مدرسة واحدة، والغريب إنه وجد هذا العدد المقدّس من السكاكين، ثم عقّبَ على ذلك بحنان وإنسانية قلّ نظيرها لدى الحكام العرب القساة: "أنا لا أريد أن تَقتُل وتموت"، وقد تكون ترجمة لقوله: أنا أريد أن تعيش ذليلاً مهاناً. وأظهر الولاء لإسرائيل بذاك التصريح العجيب في لقاء تلفزيوني، مؤكداً تهمة الإرهاب التي يُتّهمُ بها شعبه.

تجمع أخبار مصحوبة بتحليلات كثيرة على أن بوتين أهدى صديقه نتنياهو رفات الجنود الأربعة المدفونين في ولايته الروسية سوريا، دعماً لحملته الانتخابية، أي أن الموتى صوّتوا لنتنياهو، وغالباً تصاحَبُ الانتخابات الأمريكية والإسرائيلية بدماء غير أمريكية أو إسرائيلية، وأصوات الموتى تشبه الفيتو، فهي أقوى وأمضى من أصوات الأحياء. ولم أجد أحداً يقول إن الموتى الأربعة صوّتوا لبقاء الأسد أيضاً، فالذي لا يجادل فيه مجادل أن إسرائيل هي الصوت الوحيد في صناديق الانتخاب العربية في النظم الموصوفة بالجمهورية.

ونذكر في هذا المقام بتفسير صاحب موسوعة اليهود واليهودية عبد الوهاب المسيري لتقديس اليهود للمدافن وشعائر الدفن وكل ما يمت بصلة إلى الجماعات المقدسة، من طعام وأرض وحدود وأفكار وعلم وزعيم، ويُرجع المسيري ذلك إلى العقائد الاستعلائية الفاشية، فالفاشية ترى أن الإله يحلُّ بشعب معين، أو شخص معين من هذا الشعب، مما يخلع القداسة عليه، ومشكلة الثورة السورية أنها ابتُليتْ بحكم حلولي نجت منه الثورات الأخرى بمقادير، أو إنها أكثرها حلولية. ولا يزال كثيرون يظنون أن سقوط الأسد سيعني سقوط النظام بسبب الحلول. وفي النسق العقدي اليهودي تيارات حلولية وأخرى توحيدية، لكن الصهيونية عمّمت النسق الحلولي، وسيّدت أفكار مثل "الشعب المختار" و "الأغيار" و"الحقوق المطلقة للشعب اليهودي"، والهولوكست.. وتجاوز الحلول الأحياء إلى الموتى والدفن والمدافن.

"تشغل طقوس الدفن جانباً مهماً في العقيدة اليهودية، وتأخذ أشكالاً متنوعة حسب المحيط الثقافي والتاريخي والقومي الذي تعيش فيه الجماعات اليهودية المختلفة. وبوجه عام، يحرص اليهود على غسل موتاهم بأسرع وقت ممكن، ثم يقومون بدفنهم في احتفال يتسم بالبساطة بعد تلاوة صلاة القاديش. ويستخدم الإشكناز توابيت يدفنون فيها الموتى، أما اليهود الشرقيون فيدفنون موتاهم في الأرض مباشرة كما هو الحال عند المسلمين. وعادةً ما يُدفن اليهودي الذي يموت ميتة طبيعية في شال الصلاة (طاليت) الذي كان يستخدمه أثناء حياته، أما من يُقتل فيؤخذ بملابسه الملطخة، ويُلّف بشاله حتى لا يفقد أي جزء من أعضاء جسمه. وإذا كان الميت طفلاً لم يُختن، يتمسك اليهود بختانه قبل دفنه بالإضافة إلى إطلاق اسم عبري عليه.

وهناك عدة طقوس ذات طابع حلولي شعبي مرتبطة بمراسم الدفن، فإحدى صلوات الإشكناز في الجنازة اليهودية تتضمن طلب الغفران من الجثة، وهي عادة ظلت قائمة حتى عام 1887، حين أوقفها الحاخام الأكبر في إنجلترا. والمسلمون يفعلون العكس بمسامحة المرحوم، ويلقي السفارديم عملات في الجهات الأربع بوصفها هدية أو رشوة للأرواح الشريرة، ولا شك أن كثيراً من هذه العادات والطقوس مستمد من التقاليد الحضارية للشعوب التي عاش بينها أعضاء الجماعات اليهودية، وهو الأمر الذي يفسر اختلاف عادات الدفن بين يهود أوروبا، مثلاً، ويهود البلاد العربية أو إفريقيا.

تحظى المدافن اليهودية بنفس الاهتمام الذي تحظى به طقوس الدفن، وهي تُسمى "بيت الأحياء" أو "بيت الأزلية". وقد صرّح أحد الحاخامات أن المقبرة أكثر قداسة من المعبد اليهودي، أي أن المكان الذي يدفن فيه اليهودي أكثر قداسة من المكان الذي يعبد فيه الإله. ولعل هذا الاهتمام الزائد بجثمان الميت يفسر اهتمام الدولة الصهيونية بجثث الجنود القتلى الإسرائيليين، ومن هنا محاولاتها المستمرة في استرداد جثث القتلى. ويزور اليهود المقابر في الأعياد ليقيموا الصلوات أمام قبور الموتى حتى يتشفعوا لهم عند الإله، ولابد من دفن جميع اليهود في المكان نفسه بالطريقة نفسها، ويُحتفظ بأماكن خاصة في المدافن للعلماء والحاخامات والشخصيات البارزة.

وللدفن في "الأرض المقدسة" دلالة خاصة، وهذا أمر منطقي في الإطار الحلولي، فمع حلول الإله في الأرض والشعب، وعدم تجاوزه لهما، يتراجع الخلود الفردي ويحل محله الخلود عن طريق التوحد مع الأمة والأرض. ولا يزال كثير من أثرياء اليهود في العالم يشترون قطعاً من الأرض في فلسطين ليُدفنوا فيها، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع ثمن المقابر. وقد لُوحظ أن بعض المهاجرين من بلدان الاتحاد السوفييتي السابق يصلون أحياناً إلى الدولة الصهيونية ومعهم توابيت لبعض أفراد الأسرة ليُدفنوا في فلسطين، ولكنهم يكتشفون أن أسعار المدافن باهظة، وأنهم غير قادرين على دفع الثمن، مما يدفع البعض إلى دفن موتاهم في بلدانهم الأصلية.

وجرت العادة خارج فلسطين على أن يُرشّ على رأس الميت تراب يُؤتى به خصيصاً من فلسطين، كما اهتمت الحكومة الإسرائيلية اهتماماً بالغاً بنقل رفات معظم الزعماء الصهاينة فور إعلان دولة إسرائيل، حتى تكتمل "قداستهم" في المثوى الأخير على "الأرض المقدسة"! ومن المعروف أنه لا يجوز إخراج جثة اليهودي المدفونة من الأرض إلا لإعادة دفنها في مدافن العائلة أو في أرض إسرائيل". وجرت مبادلات مهينة بين موتى اليهود وأسرى العرب، أحياناً بين أشلاء اليهود وأحياء العرب، تذّكر بالهتاف الشعبي: واحد منا يقابل مية، مقلوباً.

الكلام أعلاه كله للمسيري، ويلاحظ أن كثيراً من شعائر الدفن تذّكر بالشعائر الإسلامية بعد تحريف مقاصدها. ويجدر بالذكر أن بني إسرائيل لم يكونوا يحاربون إلا بالتابوت، وهو لغة من التوب، أي الرجوع، وقد ماتت عقيدة الرجوع الأخروي عند اليهود، فأرض الميعاد على الأرض في فلسطين وليست في الحياة الآخرة، وفي التابوت بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، أي فيه شيء من عصا وملابس موسى وهارون، وقيل شيء من رضاض الألواح التي ألقاها موسى من يديه، فيما أخبر الله عز وجل، تحمله الملائكة، يروى عن ابن عباس قال: "جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت، والناس ينظرون إليه". فهذه آية من آيات الله التي أخبر الله عنها، وقعت في بني إسرائيل في زمن نبي من أنبياءهم للملك طالوت، وكان عبداً صالحاً، وقد يكون مصطلح التابوه مقتبساً من تابوت بني إسرائيل، العبرية والعربية أصلهما واحد هو العروبية حسب الباحث علي فهيمي خشيم.

أما قول صاحب هذه السطور الذي يختم به الاقتباس الطويل السابق، فهو أن سورية خلال السنوات الثماني الماضية، كانت ضحية موتى وأضرحة ورفات، إسرائيل من جهة، وإيران وكتائبها، التي احتلتها للدفاع عن الأضرحة المقدسة، فحولت سوريا إلى مقبرة كبيرة شواهد قبورها منازلها وعماراتها. وكان الأسد الابن قد جرَّ شعب سوريا إلى عبادة لم يعرفوها من قبل، وهي ضريح الأسد، بتحويل قبره إلى حج. وتجري حالياً إقامة المزارات على قدم وساق تحت رعاية إيران لتحويل الشعب السوري مذهبياً. عادت رفات الجنود الإسرائيليون الغزاة إلى الأرض المقدسة، بينما تتحسر آلاف الأسر على معرفة مصائر أبنائها المجهولة، وقد حولت المخابرات معرفة مصير المعتقلين إلى تجارة ومصدراً من مصدر الدخل غير القومي.

المثل يقول عن القاتل الفاجر "يقتل القتيل ويمشي في جنازته"، وكان هذا قديماً، عندما كانت للقتيل جثة وجنازة وحدود لفجور القاتل، ففي هذا الأيام يقتل القاتل القتيل ويتهمه بالانتحار أو الخيانة، ويجبر أهل الضحية على الاعتذار عن إنجاب القتيل، والسير في جنازة القاتل البطل عند موته بعد عمر طويل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024