يحق للسودانيين الاحتفال

شادي لويس

الثلاثاء 2019/07/09
في الأول من تموز/يوليو الجاري، نشرت جريدة "البيان" الإماراتية، حواراً مع المبعوث الأميركي للسودان، دونالد بوث، أعلن فيه عودة "قوى الحرية والتغيير" والمجلس العسكري في السودان، إلى الحوار المتوقف منذ الثالث من حزيران/يونيو الماضي. وبعد أربعة أيام من هذا الإعلان، كشفت جريدة "نيويورك تايمز" الأميركية، أن اللقاءات السرية بين الطرفين والتي بدأت في 29 حزيران/يونيو، تمت برعاية الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات. وبحسب مصادر كاتب المقال، ديكلان وولش، فمن ضمن العوامل الحاسمة لعودة المجلس العسكري للتفاوض، كان تخلي كل من السعودية والإمارات عن دعمهما المطلق له، بعد مذبحة فض اعتصام "القيادة"، واستياء ممثلي الدولتين من اتهماهما بإعطاء الضوء الأخضر لانطلاق العنف الواسع في الخرطوم.

ويبدو أن التحالف السعودي- الإماراتي، الذي يخوض حرباً في اليمن اجتذبت نقداً دولياً واسعاً، لا يحتاج إلى التورط في المزيد من الصراعات الدموية تُرسخ صورته كعامل تخريب وإثارة للقلاقل في المنطقة، بالإضافة إلى تهمة مناهضته لأي حراك ديموقراطي فيها. وفي الأغلب، أن الإدانات الإعلامية والشعبية الواسعة، والجهود غير الرسمية حول العالم لشجب مذبحة "القيادة"، كان لها دور كبير في الضغط الدبلوماسي على النظام السوداني وداعميه الإقليميين. وساهم التأثير الذي مارسته السعودية والإمارات على المجلس العسكري لاحقاً، في التأكيد للشركاء الأميركيين والبريطانيين على النفوذ الذي تتمتع به الدولتان، وقدرتهما على القيام بدور جوهري كمحفز للاستقرار في دول الجوار.

لكن ما تضيفة مصادر دبلوماسية أمريكية لكاتب مقال "نيويورك تايمز" هو أن عاملاً حاسماً آخر كان إدراك التحالف الخليجي لافتقاد نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي في السودان، محمد حمدان دقلو "حميدتي"، للدعم الشعبي، ما يرجح أن الضغط لصالح الوصول إلى تسوية، كان مدفوعاً برغبة السعودية والإمارات في تحاشي انهيار الوضع في السودان وفقدانهما مصالحهما هناك. وكان خروج مئات الآلاف من المحتجين في أنحاء السودان، في تظاهرات الثلاثين من يونيو، عاملاً حاسماً في التأكيد للجميع، سواء الأطراف الخارجية أو المجلس العسكري، على حتمية الوصول لتسوية مع قادة الاحتجاجات، وهو ما حدث بعدها بأيام.

خاطرت "قوى الحرية والتغيير" بالعودة للجلوس وجهاً لوجه أمام أعضاء المجلس العسكري، ومن بينهم حميدتي نفسه، والذي يعتبره كثيرون مسؤولاً عن مذبحة "القيادة". وخاطرت بتنازلها عن كافة شروطها المسبقة للعودة للمفاوضات، وكذا قدمت تنازلت كبيرة في الاتفاق المبدئي حول شكل إدارة المرحلة الانتقالية، والذي أعلنه موفد الإتحاد الأفريقي، يوم الجمعة الماضي. وفيما يسهل اتهام "الحرية والتغيير" بالتفريط، كما أعلنت بعض الفصائل السودانية المسلحة، فإن قادة الاحتجاجات يمشون -مضطرين- على خط دقيق، يفصل بين العقلانية والرغبة في حقن الدماء، وبين الانتهازية. فـ"الحرية والتغيير"، التي حينما كانت تستعد لاحتجاجات الثلاثين من يونيو، كانت في الوقت نفسه تتفاوض سراً مع المجلس العسكري، تقدم نموذجاً للمرونة السياسية ولإدراك توازنات القوى على الأرض، مع اعتراف ناضج بأن المفاوضات تتم غالباً مع خصوم لا أصدقاء.

لكن التفاوض مع العسكر شيء، واقتسام السلطة معهم وإدارة الدولة بشكل يومي شيء آخر. تواجه "قوى الحرية والتغيير" اليوم التحديات الأكبر، حول الوصول إلى اتفاق مع العسكر على العضو المستقل في المجلس السيادي، والذي سيكون صوته حاسماً في اتخاذ القرارات، وكذا تسميه حكومة التكنوقراط، وتشكيل لجنة التحقيق في مجزرة "القيادة"، وشكل المجلس التشريعي ونِسَب عضويته. والأهم من هذا كله، يظل التحدي الأكبر هو ضمان التزام العسكر بتسوية تفضي إلى تسليم السلطة للمدنيين ضمن مهلة السنوات الثلاث المقبلة.

أعلنت الولايات المتحدة من جانبها، قرب رفع السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، لتشجيع جميع الأطراف على الالتزام بالاتفاق. وتتجهز "قوى الحرية والتغيير" لعقد لقاء موسع مع الفصائل السودانية المسلحة في أديس بابا، خلال أيام، لدمجها في خطوات التسوية المقبلة. تالياً، يبدو أن التحركات الجارية راهناً ترتّب لوضع جديد سيصعب على العسكر الانسحاب منه فجأة ومن دون خسائر فادحة.

كانت الانفراجة الأخيرة سبباً لاحتفالات واسعة في شوارع السودان، ومبرراً معقولاً أيضاً للقلق على المستقبل. لكن الأكيد أيضاً هو أن الثورة السودانية، حتى الآن، أثبتت أن الجماهير قادرة في النهاية على تحدي القوى الإقليمية، وسلطة الأمر الواقع المسلحة، وإرغامها جميعاً على الاعتراف بوجودها، وتقديم التنازلات والوصول إلى تسويات. يظل المستقبل محملاً بالتهديدات بالطبع، ويظل الكثير من المسائل الجوهرية معلقاً، ويبقى التشكك في نوايا المجلس العسكري. لكن، مع هذا كله، يظهر الوقت الآن مناسباً للسودانيين كي يحتفلوا ببلوغهم مفترق طرق حاسماً ومفتوحاً على مخاطر كثيرة، لكنه يظل واعداً بالقدر نفسه.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024