عن دلالات الغيب في كلام "النمر"

عبدالله أمين حلاق

السبت 2018/03/03

مع توارد الأنباء عن الاستعدادات العسكرية التي تقوم بها "قوات النمر" تمهيداً لاقتحام الغوطة الشرقية، وهي القوات التي يقودها العميد سهيل الحسن، القائد المعروف لإحدى ميليشيات نظام الأسد.. تناقلت المواقع وصفحات التواصل الاجتماعي فيديو للحسن وهو يلقي خطبة قصيرة أمام رجاله ومعاونيه من الضباط، مشدداً على "ثقته وحبه لهم"، و"ثقة المجاهد بأخيه المجاهد"، ومتعهداً بالقتال "حتى انتصار الحق، أو ظهور المهدي".

اعتاد السوريون المعارضون للنظام أن يتلقفوا "خطابات" سهيل الحسن، والملقب بــ "النمر" من قبل الموالين للأسد و"النمر الوردي" من قبل المعارضين له، وأن يحولوها إلى مادة هزلية تليق بمضمونها على صفحات التواصل الاجتماعي، بدءاً من نظرية "أعداء العالم، مروراً بــ "أطروحة" الحسن عن "اللاشعور"، وليس انتهاء بالفيديو الأخير والذي يقف المرء أمامه مطولاً، في محاولة لاكتشاف ترابط بين جمله ومفرداته سعياً للخروج بفكرةٍ ما، منه. يبدو "النمر" حالة كاريكاتورية تخرج عن سياق نص غير موجود أمامها في الأساس، لتلقي بتهويمات و"نظريات" كوميدية فوق أشلاء السوريين الذين قتلهم هذا الضابط وقواته، ومعه ميليشيات كثيرة، سوريةٍ وغير سورية، تمتد على كافة أراضي البلاد. لكن الفيديو الأخير، والمبشر بالنصر وبالقتال حتى ظهور المهدي، يمكن أن يأخذ المتابع إلى أماكن أخرى مختلفة عما عُرف في فيديوهات هزلية سابقة للحسن. أي، إلى علاقة منظومة الأسد بالغيب وتحالفاته العسكرية والسياسية.

في عام 1979 وفي أثناء هجوم الثوار الإيرانيين واقتحامهم للسفارة الأمريكية في طهران، استطاعت مجموعة من الناشطات الإيرانيات المؤيدات للثورة والمعارضات للشاه، إعادة تجميع عدد كبير من الأوراق وقصاصات الورقة المتلَفة والخروج منها بعدد من أسماء المخبرين الإيرانيين المتعاملين مع السفارة الامريكية في إيران. يومها، راجت كتابات كثيرة في الصحافة الإيرانية التي كانت تدور في الفلك الخميني لتقول بأن "نوراً إلهياً" ساعد "المؤمنات" على إكمال هذه المهمة الجليلة. كان ذلك في بدايات الانقضاض الإسلامي -الخميني على الثورة الإيرانية، وتحويل الغيب إلى جزء من يوميات مفروضة على الإيرانيين، بدءاً من نمط الحياة اليومية وانتهاءً بما يلزم من معارك إقليمية على طريق ظهور "المهدي المنتظر"، "صاحب الزمان"، والذي ينوب عنه اليوم المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، ويقوم مقامه على الأرض وفي إدارة شؤون العباد. وبمعزل عن الحق الطبيعي للمؤمن الشيعي أو السني، وحق أي إنسان في الاعتقاد والإيمان أو عدم الإيمان بأي دين أو مذهب إيماناً عادياً وعفوياً بعيداً عن السياسة و"أمهات المعارك"، فإن الغيب الخميني تحول إلى ولّادة لبرك من الدماء في المنطقة، من سوريا إلى اليمن، وما سبقهما وما بينهما.

لا يبدو سهيل الحسن، أو "النمر"، جزءاً من فكرة "تصدير الثورة" وأفكارها وغيبها السياسي إلى سوريا. لا موقعه ولا شخصيته تتيحان له ذلك. حتى بشار الأسد نفسه، لم يستدع ويوافق على دخول قوات الاحتلال الإيراني والروسي والميليشيات الوافدة من كل حدب وصوب، تبعاً لعلاقة ما تجمعه مع هذا المذهب أو ذاك. "كرسيّ الحكم" وأوهام الأبد كانت هي العامل الأساسي والأول الذي استجلب بشار الأسد بسببهما حلفاءه الخارجيين للدفاع عنه وعن بقائه/ بقاء مصالح هؤلاء الحلفاء في سوريا والمنطقة واستجلاب مشاريعهم وتصديرها إليها. وإذا كان ثمة تيارات وأحزاب سياسية وحكومات ومثقفون غربيون يرون في الأسد اليوم "رئيساً علمانياً" و"حامياً للأقليات"، فإن سياسات اللعب الأسدي على الوتر الغيبي، الماورائي، لا تغيب إلا عن أذهان هؤلاء وعلى امتداد عقود من فصول الحكم العائلي لسوريا، في عهد كل من حافظ وبشار.

ما يلفت النظر في كلام سهيل الحسن هو حجم التأثر بالدور الإيراني على حساب الدور الروسي. وإذا كانت كل من روسيا وإيران تلِغان في الدم السوري منذ عام 2011 ووصولاً إلى الغوطة الشرقية اليوم، فإن الأسد وضباطه لا يزالون يفضلون الخيار الإيراني المفتوح على الحل العسكري الصرف، خلافاً للدور الروسي الذي يقتل سوريين كل يوم، ويعمل في الوقت نفسه على إيجاد مخرجات حل سياسي بالاشتراك مع "معارضة" مدجَّنة تناسب بالأسد ونظامه وتليق بهما. واستطراداً، فإن هذا التفضيل قد تقدم خطوة إلى الأمام وعلى الملأ وتناقلته صفحات الويب والتواصل الاجتماعي، كلاماً يغازل ويحابي الطموحات الطائفية والعسكرية الإيرانية. لكنه وفي الوقت نفسه، تراجع خطوة أخرى إلى الخلف مع تحول النصر من نصر إلهي صرف ممثلاً بعبارة "سوريا الله حاميها"، والتي راجت في أوساط الشبيحة ومواليهم، لتتحول إلى "القتال حتى ظهور المهدي"، في خصخصة واضحة للنصر وتحويله من نصر إلهي مؤمَّم وعام إلى نصر منسوب إلى طائفة بعينها. "قد يصلح ذلك مثالاً آخر على أفول اشتراكية حزب البعث لصالح الخصخصة حتى في ميادين القتال".

وقصارى القول، أن التلطّي بالغيبيات كان "سياسة" دأب عليها النظام السوري وأنظمة كثيرة تشببه في المنطقة، من إضفاء حالة القداسة والخوارق على الحاكم والتي صنعها المؤيدون له والمتيمون به "ظهور وتجلّي وجه حافظ الأسد على القمر"، وصولاً إلى ضباط بشار الأسد وخطبهم الرنانة "الكلام الأخير لسهيل الحسن، نموذجاً". كان الإسلام الجهادي الحربي في سوريا ولا يزال يرفع راياته السوداء في البلاد، علناً، مهدداً بإمارات إسلامية منذ تشكل كتائبه في سوريا والدعم الخارجي الذي حظيت به في بعض الأحيان. إلا أن التلوّن يبقى دين بشار الأسد وهو يطوّع الأرضي والسماوي على طريق استعادة مشروعه الأبدي، والذي سيتوج المأساة السورية بمأساة أكبر في حال وقعت المعجزة وخرج بشار "منتصراً" من أقبية قصر المهاجرين في دمشق، خروجه المنتظر من قبل كثيرين، على إيقاع اللطميات في سوق الحميدية وأصوات قذائف السوخوي الروسية التي تفتك بالغوطة وبسوريا كلها، ليلاً نهاراً.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024