زكريا بطرس الذي عرفته: التهديد بالماضي؟

شادي لويس

الأربعاء 2021/11/17
يظهر مقطع الفيديو، فجأة، بعد عشرة أعوام من إصداره، ويتم تداوله بكثافة بلا مبرر مفهوم، مع هاشتاغ في وسائل التواصل الاجتماعي، يطالب بمعاقبة القس زكريا بطرس، ولم تلبث التبليغات عن الفيديو باعتباره "مسيئاً للأديان" أن أدّت إلى إزالته من كل المنصات التي كانت تبثه. وذلك فيما الكنيسة تتبرأ من الكاهن القبطي الذي داوم على انتقاد الإسلام عبر شاشة قناة "الحياة" المسيحية، إضافة إلى حملات تبدو منظّمة تخرج لتأجيج فتنة عنوانها الإساءة إلى الرسول، وفي المقابل تجييش لا يقل تنظيماً، ويخرج عدد من الوجوه القبطية للاعتذار. يشكّك البعض في أن يد النظام وأجهزته الأمنية وراء ما يحدث. فلماذا يعاود فيديو بطرس الظهور الآن؟ وكيف نسقت حملات الهجوم ردود الأفعال المتبرئة والاعتذارية بهذا الشكل الجماعي؟

ظهر أبونا زكريا في حَيِّنا الهادئ، فجأة. كان ذلك خلال النصف الثاني من الثمانينات. القس الموقوف عن الخدمة لأسباب غير معلومة، يُعاد إليها في كنيسة ماري جرجس بمنشية التحرير، شرقي القاهرة. واحدة من الروايات الرائجة، أن تعاليم زكريا المتأثرة باللاهوت البروتستانتي كانت وراء محاكمته كنسياً، ووقفه عن الخدمة ثمانية أعوام. أما الرواية الأخرى التي كانت تتردد في السر، فهي أن تعميده لأحد المتنصرين هو ما جلب عليه المشاكل مع الأمن، وكان إبعاده عن الكنائس أمراً صادراً من الدولة، لا الكنيسة، أو على الأقل بتسوية بينهما.

في خلال بضعة شهور، سيقلب زكريا طفولتنا رأس على عقب. فوعظات الرجل المفوّه، بصوته الجهوري، في أمسيات السبت، لن تعطينا فقط طرقاً جديدة لرؤية العالم وقراءة النص المقدس، بل ستجتذب آلاف الأقباط من أنحاء القاهرة، ومن خارجها أيضاً. أذكر جيداً في تلك الليالي، مصادفتنا في الشوارع للتائهين الذين يسألون عن الطريق إلى كنيستنا، بلكنة ريفية أو بلهجة مدن القناة الغريبة على آذاننا. كان الحضور الهائل، يعني المزيد من التبرعات. وبمرور العام لن تكون قاعات الكنيسة كافية لاستيعاب العدد، وستبني الكنيسة طوابق إضافية يتم وصلها بدوائر تلفزيونية لاستقبال آلاف إضافية من المصلين.

كانت العظات تُسجل، ووجدت شرائط الكاسيت طريقها إلى البيوت البعيدة، واقتنت أسرتنا المجموعة الكاملة، عظة بعد عظة. وفي تلك الوعظات ذاتها، بدأنا، للمرة الأولى، نرى الحضور الأمني واضحاً للعيان داخل الكنيسة، وضباطاً في ملابس مدنية جالسين على طاولة خاصة بهم في مدخل القاعة. وكان زكريا يوجه كلامه إليهم، في عظاته، ساخراً بطريقة مبطنة، تحمل تحدياً واستسلاماً في الوقت ذاته. أذكر تلك العظة التي حكي فيها زكريا عن الكهنة الذين سُجنوا خلال اعتقالات سبتمبر (أيلول) 1981، والواحد منهم يجثو علي ركبتيه، ليحشر أنفه تحت حافة باب الزنزانة المكتظة، ليستطيع التنفس، ولعله كان واحداً منهم. وليلتها أذكر المشهد: الرؤوس تلتف في القاعة لتنظر إلى رجال الأمن الجالسين بيننا، وعلامات عدم الراحة بادية على وجوههم.

ستكون لأسرتنا الصغيرة علاقة مباشرة مع زكريا. فهو من سيقوم بطقوس العمادة لواحدة من أطفالها. أذكر والدتي يومها، حين أصابتها الرهبة من نظرة القس التي بدت قاسية. قصة أخرى تُروى عن الرجل، أن لديه عيناً زجاجية. ففي شبابه، حين كان طالباً في واحدة من جامعات الصعيد، فقد واحدة من عينيه خلال اعتداء من أحد الطلبة المنتمين للجماعات الإسلامية. لا تبدو القصة مقنعة، لسبب يتعلق بالتواريخ.

وكما ظهر أبونا زكريا فجأة، اختفى فجأة. قيل أن البابا شنودة شعر بالغيرة من شعبيته، فاجتماعات السبت غدت أشهر من عظة الأربعاء الباباوية في الكاتدرائية. وقيل أن السبب هو الأمن، مرة أخرى، فهو عاود تعميد متنصّر آخر.

تمر السنون، وأرى زكريا، رجلاً آخر في شاشات الفضائيات. مسحة البطولية التي أحاطت به في عينيّ تحول إلى نوع من الخسّة. فهو الآمن بإقامته في الخارج، يعرض الأقباط في الداخل للخطر، بسخريته الأسبوعية . كان ما يردده سطحياً، تدوير لانتقادات المستشرقين القدامى للإسلام، وبدا مدفوعاً بالمرارة، أكثر منه ببُغية الإقناع.

هكذا تعود فيديوهات زكريا إلى الظهور، لأن كل التشوهات التي حكمت التوازنات داخل الكنيسة، وبينها وبين الدولة، وبين الأقلية والغالبية، مازالت قائمة. ولا يعني هذا أن الضجة الحالية مرجعها إعادة تدوير القديم، أو التهديد به. بل على العكس، فلعله تأكيد على أن علاقة الدولة بالأقباط تغيرت، أو على الأقل أن ما نراه الآن مقدمة للذهاب بتلك التغيرات إلى ما هو أبعد بكثير.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024