في البحث عن سوريا اليوم

عمر قدور

السبت 2019/06/15

حدثان لا يوجد رابط مباشر بينهما أثارا خلافات من الطبيعة ذاتها بين السوريين مؤخراً، الأول وفاة المفكر طيب تيزيني قبل أقل من شهر، ثم استشهاد عبدالباسط الساروت. في الحالتين برزت أصوات من هنا أو هناك للنيل من الرجلين، وللتحريض على عدم الترحم عليهما، وكانت حاضرة تلك الأصوات التي ترحمت على تيزيني واعتبرت الساروت إرهابياً، مثلما حضرت الأصوات التي فعلت العكس.

ليست المسألة في حق كل منا في تقييم الشخصيات العامة سلباً أو إيجاباً، فالسوريون الآن غير مترفين على النحو الذي يسمح لهم بممارسة عمليات نقدية معمقة ومعرفية، وهم لا يفعلون ذلك حتى الآن. الأمر برمته هو أولاً وآخراً في السياسة، والخلاف سياسي ضمن ظرف عام يتراوح بين المقتلة والإبادة الجماعية وبين غموض مستقبل سوريا ككل. والخلاف ليس على هذه الشخصيات أو غيرها، هو يتحين مناسبة ليشهره أصحابه، كنوع من التأكيد على افتراق السوريين، والتأكيد على استحالة ردم الهوة بينهم.

بالطبع الحديث هنا ليس عن الهوة بين أنصار النظام ومن هم في الطرف المقابل؛ إنه عن أفرقاء تتراوح نظراتهم إلى أنفسهم بين من يريدون التغيير ضمن ضوابط يضعونها هم، وبين أنصار للثورة بلا تحفظ، أو مع بعض التحفظات. إلا أن الرغبة في التغيير، التي يُفترض بها أن تجمع هؤلاء، تتكشف في كل مناسبة عن أن العداء البيني من قبل البعض يفوق العداء المزعوم للأسد، ومن المستغرب أن تبادل النكايات لا يتوقف، بمعنى أن القطيعة بينهم لا تحدث على النحو الذي حدث بين شبيحة الأسد وأنصار الثورة. كأننا طوال الوقت أمام رابطة تحمل من الشد بقدر ما تحمل من النفور والكراهية، وكأن أطراف هذه الرابطة غير قادرين على فصمها، رغم كونه القرار الأكثر عقلانية من أجل التخلص مما تمثله من إعاقة ذهنية وحركية.

لن يصعب علينا ملاحظة الوظيفة التي تؤديها تلك الرابطة للمتخالفين الذين تضمهم، وهي وظيفة سياسية بقدر ما هي نفسية يمكن فهمها وفق علم نفس الجموع. مثلاً سيجد ذلك الداعية السلمي سلواه في فشل العسكرة والتهجم على مؤيديها، وهذا بالتأكيد أسهل من بذل جهد لا فقط من أجل العمل على ثورته السلمية الناصعة، وإنما أسهل أيضاً من العمل على أي بناء نظري وواقعي للثورة التي يريدها أو يشتهيها. قد يجد مؤيدون للعسكرة سلواهم بتسلط الإسلاميين عليها، وبتسلط الخارج على الصراع، ولوم الإسلاميين أسهل من التساؤل عن ديناميكيتهم وعدم القدرة على مجاراتهم. الإسلاميون بالطبع لا يقصّرون من ناحيتهم في لوم الباقين، وهذا أسهل من التوقف عند إخفاقاتهم الكثيرة السياسية والعسكرية، وأسهل من الاعتراف بأنهم أيضاً ليسوا كتلة واحدة، بل كتل متحاربة وإن اجتمعت نظرياً على كره من هم خارجهم. لا أسهل على الكردي من رمي كل المصائب التي ألمت بالأكراد على الثورة، بحيث أصبح قمع البعث والأسدية مجرد جنحة صغيرة بالمقارنة، مثلما لن يكون أسهل على العربي من اتهام الأكراد بخذلان الثورة وبكونهم من الأسباب الرئيسية في إفشالها، فلا الكردي مستعد لنقد تجربة الميليشيات الكردية ولا العربي مستعد للاعتراف بأخطاء ميليشيات عربية وللتمييز بين الميليشيات الكردية كسلطة أمر واقع والأكراد كمجموعة موجودة قبل تلك الميليشيات وستبقى بعد انقضاء دورها.

لا أمل بجمع هؤلاء المتخالفين، ربما هذا أول ما ينبغي الانطلاق منه، لأن العقلانية تقضي بعدم إنكار الواقع. العقلانية نفسها تقول أن إمكانية أي اجتماع سوري تنطلق أولاً من المتشابهين والمتفقين، هذا إذا كانت متوفرة. التشابه المقصود لا يعني نفي التمايز أو الاختلاف، وإنما يعني الاتفاق مسبقاً على الرحابة الفكرية والنفسية التي لا تعيق الاجتماع على قاعدة التباين. لماذا استحضار وفاة تيزيني واستشهاد الساروت في هذا السياق؟

إذا كان الاستهلال قد ذهب إلى أولئك الذين نالوا من الشخصيتين في مناسبة رحيلهما، تحت دوافع أيديولوجية وذرائع شتى، فما تجب ملاحظته وجود شريحة امتلكت الرحابة كي تثمّن ما هو وطني في سيرة الراحلين، وأفراد هذه الشريحة غير متطابقين فكرياً، ولا ينطلقون من موقع أيديولوجي واحد، ولا الموقف الإنساني هو وحده الدافع بل هناك ما يمكن اعتباره بحق موقفاً وطنياً وإنسانياً في الوقت نفسه.

كي لا نبقى في إطار التعميم، ضمن هذه الشريحة هناك علمانيون وهناك إسلاميون ومسيحيون، هناك عرب وهناك أكراد وتركمان وغيرهم، لتشمل أيضاً من لا يرى نفسه مصنَّفاً ضمن خانة قومية أو مذهبية أو أيديولوجية. بشيء من الأمل "أو بكثير منه"، قد يكون هؤلاء، فضلاً عن سوريين في الداخل منعهم القمع من التعبير على نحو مشابه، هم ما تبقى من سوريا اليوم، وربما يكونون أفضل من يستطيع النهوض بمشروع سوري يستأنف روح الثورة في إطارها الوطني والإنساني.

ما سبق لا يعني إقصاء آخرين، بل يستقيم الافتراض بدايةً أن الذين يمتلكون رحابة فكرية ونفسية قادرون على استيعاب المختلفين الغائبين. العبرة هي أولاً في القدرة على الانتظام ضمن مشروع وطني يقطع مع أخطاء المرحلة السابقة، وثانياً في القدرة على الاستمرار والمواظبة بالروحية ذاتها. من ثم فإن مصداقية أي مشروع تُكتسب عبر العمل والجهد، وهي التي تفرض على سوريين آخرين الارتقاء بخطاباتهم وجهودهم، وهي أيضاً التي تفرض نفسها على الخارج من أصدقاء وخصوم.

إذا استخدمنا المجاز، لا يجوز لحركة تغيير "مهما كان الاسم الذي نطلقه عليها" أن تتحول إلى بحيرة، ثم إلى مستنقع من الأسئلة والأجوبة المكرورة. وما لم تتم القطيعة مع ذلك العقم الفكري، الذي لا يكون تزامنه مع العجز مصادفة، سيكون من الصعب إعادة ذلك التيار إلى جريانه. إذا كانت الثورة هي قطيعة مع الماضي فإن فشلها، مع الرغبة في استئنافها، غير ممكنين إلا بالقطيعة مع أسباب الفشل الأول، وإذا اقترنت التجربة الأولى بأحلام جمع معظم السوريين فلعل واحداً من الدروس المستفادة أن جمع المتخالفين مستحيل قبل اجتماع المتشابهين.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024