العونيون في عزلتهم.. والمدفع سلاحهم

ساطع نور الدين

الإثنين 2019/11/04
لا تكف الحركة العونية عن إثارة الدهشة، بحمقها وجهلها أبسط قواعد السياسة، وبزعمها الدائم أنها دائما على حق، وأن الاخرين جميعا على ضلال، حتى باتت حالة منعزلة ومعزولة في آن، وعادت الى اصل سيرتها في ثمانينات القرن الماضي: وحدة مدفعية تربض على التلال المشرفة على بيروت وتطلق قذائفها العشوائية على الجميع من دون إستثناء.

وهي كأي سلاح مدفعي، ترى أنها لا تخضع للحساب، برغم ان دقتها في التصويب لم تكن يوماً معتبرة، وبرغم أن إختيارها لأهدافها لم يكن يوماً موفقاً، فبددت على مر الزمن مختلف ذخائرها واضاعت جميع قذائفها..ولم يبق منها سوى وعدٍ قديمٍ، كاذبٍ، بإقامة الدولة على أنقاض المليشيا، التي نقضها جميع أمراء الحرب، إلا العونيين، برغم أنهم لم يكونوا على إمارة، بل كانت تلك هي شهوتهم المكبوتة.

بالامس، جرت محاولة يائسة لاحياء تلك الامارة، التي تضاءل حجمها حتى صارت أشبه ب"قائممقامية بعبدا". أطل الأمير من قصره، ليرفع شارة النصر ويحفز المعنويات المتهالكة، وليضع منصبه الرسمي في تصرف صهره ووريثه الشرعي، الذي قال كلاما في الفساد لا يصدر الا عن معارض ما زال مقيماً خارج الحدود، في المنفى، او في المهجر، وإعترف بأخطاء لا يمكن أن تقود صاحبها الا الى السجن.

 لم يكن لدى الجنرال من يخاطبه، سوى ذلك الجمع العوني الصغير الذي رقى أميره وأسرته الى مرتبة الانبياء والرسل، لكي يغطي تهافت الخطاب وفساد منطقه. لم يكن لدى الجنرال سوى حليف وحيد، محاصر، لا يستطيع أن يفك الأسر عن الإمارة المهددة من الداخل، من القصر نفسه، ومن الشارع الذي يعزل العونيين، ويكاد يمنعهم حتى من مغادرة منازلهم، وينذرهم بالطرد مرة أخرى الى الخارج.

في الأصل كانت الحركة الطارئة وكانت الامارة الموعودة إنقلاباً خادعاً على الحرب الاهلية ورموزها وثقافتها، فإذا هي اليوم تتمة لتلك الحرب بأشكال أخرى. عندما أعيت العونيين الحيلة، إنحدروا من خطاب إحياء الدولة ومؤسساتها، الى خطاب الحقوق المسيحية السليبة، الذي أثار وكر الافاعي الاسلامية، وخدم الجهة المسيحية الاصدق في الدفاع عن تلك الحقوق. وهكذا، بدلاً من ان تركز الحركة العونية على الخلل الدستوري في تحديد صلاحيات رئيس الجمهورية، هبطت بمعركتها الى وظائف حراس الاحراج.

كانت حجة الحركة العونية أنها لا تقاتل علمانيين، ولا تقاوم منزّهين من الفساد العام، الذي تحول مع العونيين من ثقافة مجتمع الى ثقافة دولة ومؤسسات. وكانت لغتها تتهاوى شيئاً فشيئاً، حتى باتت خطراً داهماً يهدد بعودة خطوط التماس القديمة. والأدهى من ذلك، أن العونيين ظلوا حتى الامس القريب يزعمون أنهم كانوا خارج تلك الخطوط، الى أن اصبح حديث قيادتهم وجمهورهم عن المسلمين عامة والدروز والسنة خاصة أشبه ما يكون بقصف مدفعي مركز هدفه إستكمال الحرب الاهلية وتحقيق أهدافها المسيحية التي لم تتحقق.

قبل الازمة الراهنة مع الحركة العونية، كان هناك بعض التساهل الممزوج بالعطف حينا وبالهزء أحيانا من جانب خصومها، لا سيما عندما كان قادتها المستجدون يستحضرون التاريخ ويستعيدون مذابح ومعارك ورموز يريد أن ينساها الجميع ويتجاوزونها. كان يقال أنه الجهل العوني بتقاليد البلد وموروثاته الاشد حساسية، الى أن تبين ان الأمر متعمد من جانب قيادتهم، التي كانت ولا تزال تظن أنها لا تحيا الا بالاستفزاز والتحدي ونكء جراح الماضي.

العونيون وحدهم اليوم، في ما يشبه العزلة. ما زال حليفهم حزب الله، يتهيب التدخل وإستخدام قوته في معركة داخلية لا تبدو رابحة، ولن تكون سوى عبث في الحلف المقدس الذي يفترض ان يظل صامداً في الفترة الاقليمية الحرجة.

بالامس تجدد القصف من قصر بعبدا، فأحيت بيروت والمدن الكبرى، حالة الثورة على حركة تأبى أن تتخلى عن المدفع.  

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024