مفاوضات الحدود البحرية: حق لبنان أم حاجة المافيات الحاكمة؟

نبيل الخوري

الإثنين 2021/04/26

ما هو منطق التفاوض مع دولة مثل إسرائيل، من سماتها عدم احترام القانون الدولي؟ هل يتخيل أحد أن هذه الدولة ستنصاع، عبر التفاوض، لقواعد القانون الدولي في ترسيم الحدود البحرية مع لبنان؟ هل ينتظر أحد من الولايات المتحدة الأميركية، المستعدة دوماً لتجاهل القانون الدولي إذا اقتضت مصالحها ذلك، أنْ تغطي كامل مطالب لبنان بحقوقه؟

الحق والقوة
بما أن كل ذلك معروف ومتوقع، فلماذا يجري التفاوض من الأساس؟ هل الوفد اللبناني موهوم؟ أم أنه يناور لتحسين الوضعية التفاوضية والحصول على أكبر قدر من المكاسب؟ طبعاً، من المستبعد أن يكون موهوماً. وهو يعرف جيداً أن انتزاع الحق في الحدود البحرية يكون إما بالقوة العسكرية، أي بالإلزام، أو بقوة القانون الدولي وعبر التفاوض والإقناع.

بيد أن الوسيلتين لا تنفعان مع إسرائيل. فقوة لبنان أو بالأحرى حزب الله، تتسم بطابع ردعي في وجه أي اجتياح أو عدوان إسرائيلي. صحيح أن هناك قدرة لا يستهان بها على إلحاق الضرر. ومن الممكن إقلاق راحة إسرائيل في البحر وزعزعة الاستقرار وتكريس ظروف غير ملائمة لاستثماراتها النفطية والغازية في البحر. لكن لبنان يفتقد للإمكانات اللازمة من أجل انتزاع الحق أو فرض أمر واقع في البر أو البحر والحفاظ عليه بواسطة القوة العسكرية.

لبنان يدرك ذلك جيداً. لذا كانت الأفضلية لخيار المفاوضات برعاية أميركية. وإسرائيل واضحة بأنها ترفض أن يكون هناك مكان للحق على طاولة التفاوض. هي "تتسلح" بخرائط سابقة، متداولة بشكل رسمي. وعلى غرار أميركا، تتعامل مع هذه الخرائط باعتبارها نهائية. في المنظور الإسرائيلي ــ الأميركي، تبلغ مساحة المنطقة المتنازع عليها حوالى 860 كيلومتراً مربعاً، وليس 2300 كليومتر مربع، كما بدأ لبنان يطالب مؤخراً. هذه الزيادة بمقدار 1440 كيلومتراً مربعاً، مرفوضة بشكل قاطع أميركياً. سبق لوزارة الخارجية الأميركية أن أعلنت في 22 كانون الأول 2020 أن "الولايات المتحدة لا تزال مستعدة للتوسط في مباحثات بناءة وتحث كلا الجانبين على التفاوض على أساس المطالبات البحرية الحاصة بهما التي تم إيداعها سابقاً في الأمم المتحدة". وهو ما يعني التمسك باتفاق الإطار الذي تم التوصل إليه في تشرين الأول 2020، والذي على أساسه انطلقت المفاوضات في منطقة الناقورة، جنوب لبنان.

الخيارات والخرائط
أمام محدودية القوة ولاعدالة المفاوضات، ماذا يفعل الوفد اللبناني المفاوض؟ وماذا ينتظر من المفاوضات، بكل شفافية وبعيداً من المزايدات "الوطنجية" والحسابات السياسية الضيقة أو الانتخابية؟ ومن دون اللجوء إلى خطاب التضليل والكذب والتكاذب، المألوف عند القادة اللبنانيين؟

الخيارات واضحة، نظرياً. إما أن تتمسك بيروت بالمطلب المستجد، على قاعدة التمسك المشروع بالحق، فيستمر النزاع الحدودي إلى أبد الآبدين. فيخسر لبنان المنافع المحتملة من استثمار حقول الغاز والنفط. وإما أن تتنازل ضمن لعبة تفاوضية تنتزع من خلالها أكبر قدر ممكن من مساحة الـ860 كلم2. والتنازل يرتبط هنا بالحاجة اللبنانية الملحة لعائدات مالية من شأنها أن توفرها الثروة الغازية والنفطية المحتملة للخزينة العامة. عملياً، هذا التنازل هو موضوع ابتزاز إسرائيلي وأميركي للبنان. ثمة تمييز بين حق لبنان وحاجته في الخطاب الأميركي والإسرائيلي. هم يقولون بصراحة: خذوا الآن ما نعرضه عليكم، بما يساهم في تلبية حاجتكم. وهذا الخيار أفضل من أن تبقوا محرومين بشكل كامل من الموارد الممكنة. ألم يقل مساعد وزير الخارجية الأميركية، ديفيد هيل، خلال زيارته الأخيرة إلى لبنان، في منتصف نيسان 2021، إن واشنطن مستعدة "لتسهيل المفاوضات على الحدود البحرية، والتي ستكون لها منافع اقتصادية لمعالجة الأزمة"؟ ألا يعني ذلك ضمنياً، أن على لبنان "تجرع كأس السم" والتعامل بمرونة وبما يخدم حاجاته الملحة؟ يأتي الجواب بالإيجاب من واشنطن. لكن ماذا عن جواب بيروت؟

القوى الحاكمة ومصالحها
في الواقع، لا يمكن لأي حكومة في لبنان أن تفرّط بحق لبنان الحدودي. لكن هل القوى الحالية الحاكمة، بما تمثله من تحالف ضمني بين الأوليغارشيين وكبار رجال الأعمال الفاسدين والزعامات السياسية الطائفية والمليشيات، الذين يتقاسمون غنائم الدولة ضمن لعبة المحاصصة، تدافع عن حق لبنان أم عن حاجته؟ أو عن الاثنين معاً؟ أو أنها تدافع عن حاجاتها هي لمزيد من نهب موارد الدولة؟

ليس صحيحاً أن القوى السياسية الحاكمة، التي دمّرت الدولة، تكترث لحق لبنان الوطني والسيادي. بل إن ما يحركها هو دوافعها المرتبطة بأطماعها هي، كمجموعات مصالح خاصة. كل أحاديثها عن المصلحة الوطنية والكرامة الوطنية ليست سوى غطاء لمساعيها من أجل السطو على العائدات المالية للثروة الغازية والنفطية المحتملة في المستقبل. هذا هو اليوم جواب بيروت الكامن. وما المراوحة في حسم الموقف الوطني من مسألة الحدود، إلا انعكاس لعدم توافق هذه القوى الحاكمة بعد على شروط تقاسم حصص الثروة الغازية والنفطية بين بعضها البعض. ومثالاً على ذلك، هو الاقتراح الذي تقدم به باسيل يوم السبت كصيغة تدعي "التمسك بالحق" وتدعو في الوقت نفسه إلى "التنازل" بل إلى "الشراكة" مع إسرائيل باسم الفوائد والعوائد.
هذه القوى الحاكمة عندما تتوصل إلى اتفاق على المحاصصة، لن يكون مستبعداً أن تضحي بالحق على مذبح الحاجة. لكن ليس حاجة لبنان ومواطنيه، إنما حاجتهم كمافيات تحترف النهب والغنائمية والزبائنية والفساد.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024