ديما جمالي وصورها و"تيارها": مدينة المهانة الانتخابية

جنى الدهيبي

الإثنين 2019/03/04
لعلّ من يعيش في عاصمة الشمال، تعوّد على "التلوث النظري" الذي يُحيطه في كلّ الجوانب المكانيّة ليوميّاته: على الطرقات، والأبنية، والجسور، والأعمدة، والجدران، وواجهات المحال، وزجاج السيارات، وعلى شرفات البيوت خصوصاً، وفي الأسواق والأحياء، وحتّى على مستوعبات النفايات، لدرجة أن المقيم هنا لم يعد يلحظ أنّ في هذه المشهديّة شواذاً فاقعاً.

الأمر يختلف مع زائرٍ من خارج طرابلس، إذا جاء قاصدًا التجوّل فيها. هذا الزائر، لا بدّ له أن يتحسس غرائبية فادحة في المشهد العام للمدينة، التي تكسوها وتغزوها تلك الصور. وإذا كان "التلوّث النظري"، لا ينفصل على تلوثات متأصلةٍ من نوعٍ آخر، إلا أن ما يمتاز به هذا النوع من التلوث، الذي يرتكز على حاسة النظر، هو أنّه واحدٌ من أوجه تناقضات المدينة، المنفصمة والمنقسمة على نفسها.

الجني والساحر
ما أن طوت طرابلس مرحلة الانتخابات في أيار 2018، حتّى استعادت مجددًا ملامح تلك المرحلة، منذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها المجلس الدستوري قرار إبطال نيابة ديما جمالي. ومنذ صباح اليوم التالي لهذا الإعلان، استفاقت المدينة على انتشار مئات الصور الانتخابية للمرشحة المطعون بنيابتها، في كلّ المناطق والأحياء. متى "لحقوا" على فعل ذلك؟ من نشرها قبل أن يمرّ 24 ساعة على قرار المجلس الدستوري، وقبل أن تبدأ تلك المرشحة بحملة استرجاع مقعدٍ "أخذته عنوةً" (وفق رأي الدستوريين والخصوم)؟ هل ثمّة "جنيٌ" أوكلوه مهمة نشر كلّ هذه الصور بسحر ساحر؟ لا تقلّ مشروعيّة هذه الأسئلة عن سخريتها. فحال السواد الأعظم من أبناء "الفيحاء"، الذين بالكاد يقاومون للبحث عن لقمة عيشٍ مفقودة، لم يترك مجالًا لاستنهاض حماستهم على ملء مقعدٍ شاغرٍ بانتخابات فرعيّة منتظرة، لن تؤخر ولن تُقدّم شيئًا في حياتهم. وهذا "لُبّ" التناقض، حين تقوم "أجهزة" و"شبكات" بنشر صور المرشحة الرسمية الوحيدة حتّى الآن، من أجل صبغ المدينة بصبغةٍ لا تعبّر عن حال أهلها.  

الدكتورة وصاحب الكرافات
رحلة الصور لمن يُفترض أنّهم مؤتمنون على المدينة الأفقر على البحر المتوسط، تبدأ من بوابتها في المدخل الجنوبي، التي قد توحي للعابرين والزائرين أنهم يدخلون مقاطعةً خاصةً أو إمارةً لقائدٍ ترتفع صوره العملاقة وهو يرتدي الكرافات. ومع الولوج في قلب "الحدث"، ثمّة تناقضٌ جوهريٌ من نوعٍ آخر، يتعلق بمضمون العبارات المُوقعة على صور جمالي المنتشرة، سواء في صورها المنفردة، أو تلك "الثلاثيّة" التي تتوسط فيها "القائد" و"الأمين" وفق تعبير الموقّعينَ. عبارات على هيئة "الحق رح يرجع لصحابو" و"معك رغم كيد الحاقدين" و"طرابلس معك" و"أنت نائب طرابلس بحقّ"، وُقعت تحت صور مرشحة تيار المستقبل، التي هي أيضًا أكاديمية وأستاذة جامعيّة تحاضر في جامعة بيروت الأميركية. قد يكون لا بأس بهذا، في نظر البعض، وأنّ هذه العبارات الصوريّة لا تتناقض ربما مع المعنى العميق للسيدة "الأكاديمية" المرشحة، "الدكتورة" ديما جمالي.

لكن، ليس مفهومًا لأيّ درجةٍ يبقى "لا بأس"، حين ترتضي "الدكتورة" جمالي قبل يومين، سلوكيات منفّرة أقرب للمافيوية، رافقت زيارة الأمين العام أحمد الحريري لطرابلس، الذي عاد أدراجه صولاتٍ وجولاتٍ في المدينة، كحال زياراته في الحملة الانتخابية التي سبقت أيار 2018، ولن تنتهِي مرحليًا قبل لحظة الاستحقاق المفصلي للمرشحة "الزرقاء". ففي هذه الزيارة، التي جاءها "الأمين" الحريري - كما قرر تسميته أحد الموقعين على صوره العملاقة، من دون أن يشرح أنه "أمين على ماذا" في هذه المدينة – رافق فيها جمالي منذ لحظة وصوله، ترويجًا ودعمًا. لكن، من السلوكيات "الحضارية" لـ"الأمين" الحريري برفقة "الدكتورة" جمالي، تجلّت بإغلاق الطرقات إفساحًا في المجال لمرور موكبه الكبير(!)، الذي يحيطه مئات الدراجين (!)، والشاحنات التي ترفع مكبّرات الصوت (!) لأغنيات وشعارات مستقبليّة داعمة لمرشحتهم، مع إطلاق الرصاص والمفرقعات النارية استكمالًا لواجبات التأهيل والتسهيل(!).

اللعثمة والخطاب الشعبوي
في إطلالتها التلفزيونية على قناة MTV، تذكرنا ديما جمالي بإطلالة مشابهة ومتناقضة في آنٍ معًا، على القناة نفسها أثناء نيابتها، حين عجزت أن تجيب أو تحلل، انطلاقًا من وجهة نظرها، بوصفها عضوًا في كتلة سياسية ونائبة في البرلمان اللبناني، عن سؤالٍ بسيط حول سبب عرقلة تشكيل الحكومة. لكنّها أمس، أتحفت اللبنانيين عمومًا، والطرابلسيين خصوصًا الذين حثتهم على التصويت لها بكثافة من أجلّ "ردّ اعتبار الرئيس سعد الحريري وتيار المستقبل وديما جمالي، لأنّها ليست عملية عادية وإنما عملية ردّ اعتبار"، بخطابٍ مطولٍ حول مفهوم السيادة ومواجهة النظام السوري. إذ اعتبرت أنّ هذه " الانتخابات مفصلية وذات رمزية هامة لانها قضية حق وسيادة وحرية"، وتمنّت على "كل شخص في طرابلس أن يعبّر عن رأيه يوم الانتخابات بكل حرية، لأننا لسنا مستعدين أن نعطي القرار السياسي لسوريا".

قد يحتاج "خطاب" ديما جمالي لتفكيكٍ مطولٍ، عن تناقضه العميق مع خطاب قيادتها السياسية، إن كان ذلك مقصودًا، ضمن إطار توزيع المهمات، بين خطابات شعبوية زائفة، وخطابات "شراكة" حقيقية.. وإن لم يكن مفهومًا أيضًا، وفق أيّ مبدأ صنّفت جمالي نفسها مرشحةً "سيادية"، وإنّ أيّ مرشحٍ آخر قد يعلن عن نفسه لاحقًا، هو مرشح "غير سيادي"، وأنها ليست مستعدة أنّ تعطي من خلاله القرار السياسي لسوريا! وعلى هشاشة هذه المقاربة التي لم يعد لها مكان في أدبيات السياسة اللبنانية، والتي ثبت حتّى أنّها لم تعد "تُطعم فريقها السياسي خُبزًا" (وفق تعبير سعد الحريري نفسه) في لعبة الحسابات والمحاصصات، يبقى السؤال: هل الحفاظ على "القرار السياسي" دون قبضة اليدّ السورية أصبح مشروطاً بانتخاب ديما جمالي؟

الاستعراضات
عمليًا، ثمّة ما هو خطيرٍ في كلّ هذه الاستعراضات المفتعلة. هي استعراضات في الصور، واستعراضات في الشارع والمواكب والرصاص في الهواء، واستعراضات في الخطابات الموهومة، تدّل أنّ هناك مراهنةً على ذاكرة قصيرةٍ للناس، وعلى استخفافٍ مرعبٍ في التعاطي معهم. هؤلاء الناس، الذين يجري التعامل السياسي معهم على أنّهم قبائل، من دون اعطاء اعتبارٍ لهزائمهم وخيباتهم واستغلالهم والطعن بسياداتهم وحقوقهم ومكتسباتهم، عادت جمالي ووعدتهم بـ 5000 وظيفة تنتظرهم، في حال انتخبوها لتعود نائبةً في البرلمان اللبناني!

وهنا، لا ضير بمشاركة موقف صديقٍ زائرٍ لطرابلس، كان بطريقه صعودًا إلى منطقة القبة، واستقبلته بحفاوةٍ صورة عملاقة لجمالي، كُتب عليها "الحقّ رح يرجع لصحابو". وحين حاول التمعّن بالصورة لقراءة اسم صاحبها، اصطدمت سيارته بحفرةٍ كبيرة، كادت أن تُكسّرها، لكنّها حفرة بلا "أمين"، وبلا توقيع.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024