عون جعجع: الى القبيلة در

نديم قطيش

الخميس 2015/01/15
حين انتخب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية اللبنانية عام ١٩٥٨ قرعت أجراس كنائس الموارنة حزناً. مجيء الرجل كان، في العقل الجمعي المسيحي الماروني تحديدا، علامة ضعف. وصوله الى الحكم كان وليد تقاطعات لا تحصى على مستوى التطورات المحيطة بلبنان ابرزها صعود القومية العربية الناصرية ومحاولة الأميركيين إيجاد مشتركات معها، كان فؤاد شهاب احدها. اما داخليا فجاء فؤاد شهاب ممثلا لمصلحتين محبِطتين للإقطاع الماروني وبناه السياسية التقليدية التي كانت تشكل تقليديا الرأي العام المسيحي. أولى هي مصلحة البورجوازية الناشئة في لبنان وبحثها عن مدخل أوسع الى النظام السياسي، بغية تحسين البيئة السياسية والحاكمية التي تحمي نمو مصالحها، وثانية هي مصلحة إسلامية عامة وسنية على وجه التحديد بوصول رئيس اقل حدة في لبنانويته. بهذه المعاني المقتضبة جميعاً شكلت رئاسة شهاب صفعة للمسيحيين الذين يصفهم شهابي عتيق بأنهم ذهبوا بعقل كنيستهم الى لبنان الكبير عام ١٩٢٠ لكن قلبهم بقي في لبنان الصغير. ثم ذهبوا بالعقل نفسه الى الاستقلال عام ١٩٤٣ وبقي قلبهم مع إدامة الانتداب الذي، للمفارقة، لا زالت الكنيسة المارونية تقيم له قداساً على نية فرنسا في الاثنين الذي يلي العيد الكبير. ويجوز ان أضيف هنا ان عقل الكنيسة المارونية ذهب الى اتفاق الطائف ووثيقة الوفاق الوطني فيما بقي وجدان المسيحيين في ميثاق العام ١٩٤٣. 

كانت الفجوة دائما قائمة بين الظروف والخيار. ولا تزال.  
حين تشكل لقاء قرنة شهوان برعاية من بكركي في ربيع العام ٢٠٠١، كان المزاج الذي يحكم النقاشات والمواقف هو كيفية مغادرة حال الضعف المسيحي. اما أسباب الضعف فأحيلت دوما على ان زعماء الحرب المسلمين، اي اقوياءهم، دخلوا الحكم فيما غُيب عنه نظراؤهم المسيحيون اي اقوياؤهم أيضاً، الذين توزعوا بين المنفى والسجن. غير ان خروج الأقوياء من السجن وعودتهم من المنفى بعد العام ٢٠٠٥ لم يسقط هاجس الضعف ولا أسقط اولوية المسيحيين بالخروج من حاله.

كانت لحظة ١٤ آذار ٢٠٠٥ ربما اللحظة المثالية للمسيحيين لقيادة مشروع وطني يشبه منظومة القيم المسيحية السياسية، بحدتها الكيانية على الأقل، مع انزياح المسلمين السنة وشريحة كبيرة وان نخبوية من المسلمين الشيعة الى هذا الخيار. غير ان التنازع على السلطة بين اكبر مكونين مسيحيين واستئناف حروبهما البادئة عام ١٩٨٨ اطاح بهذه اللحظة، التي لم يكن ينقص للإطاحة بها الا انتهازية المسلمين التي ترجمها التحالف الرباعي بين السنة والشيعة والدروز لاقتسام السلطة بذريعة الخوف من عزل حزب الله واشعال حرب أهلية. علما بأننا انتهينا بلا ثورة وبحرب أهلية باردة ترتفع حرارتها بين الحين والآخر. كما لم يكن ينقصها ايضا الا الخوف الغريزي من "الشعب" الذي هيمن على خيار وليد جنبلاط السياسي الذي تنبه، كإقطاع سياسي، منذ لحظة ١٤ آذار ان لعبة الجماهير لا ينبغي ان تُسقط اوراق القرار من يد الزعيم، فكان المهندس الأساس لتحالف الدفاع عن الاستابلشمنت في مواجهة الثورة. 

مسيحياً، لم يكن ممكناً للصراع على السلطة بين الجنرال ميشال عون والدكتور سمير جعجع الا ان يطغى على الخيارات السياسية للمسيحيين وانقساماتهم وصراعاتهم.استفحل الامر مع انتقال بكركي من كنيسة رؤية مع البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، الى كنيسة "سياسية" تنافس السياسيين بالمعنى الضيق للسياسة مع البطريرك بشارة الراعي. 

كان انقسام جعجع-عون، وهو الان، انقسام من فوق يجد ترجمته عند القواعد الشعبية وليس صراعا بين برامج سياسية تمثل مصالح وقيماً وتفرز قيادات ناطقة بها. المشروع هو الشخص والشخص هو المشروع. وان كانت الأمانة تقتضي القول ان حركة جعجع السياسية بقيت اقرب الى الثبات على قناعاته السياسية التي جاء آخرون اليها فيما تميزت حركة عون ببهلوانية سياسية وتبديل مواقع أبقت كرة السياسة المسيحية بين يديه في الوقت الذي بدا خصمه مكبلاً بشيء من المثالية الوطنية التي لم تنجح في اخفاء ميوله الأصلية. كما أسلافه، بقي عقل جعجع في مكان وقلبه في مكان آخر. وحين لاحت فرصة اللقاء الأرثوذوكسي لم يتردد لحظة في القفز اليه، فيما كان يجري عون تحولات إضافية في هويته السياسية محاطاً بعدد وافر من منظري تحالف الأقليات، ويستكمل استدارته باتجاه تشكيل زعامة مسيحية صرفة. وحين استفحل الاشتباك بين من تمترس خلفهما الرجلان، اي السنة والشيعة، قررا ان الاوان آن لحسابات مسيحية مسيحية. وكما كان الانقسام من فوق جاء القرار بالتفاهم من فوق ايضاً فيما ترك للقواعد ان تلهث خلف انعطافة الثنائي المسيحي الابرز. وليس بغير دلالة ان تنشر صحيفة محلية دراسة تفيد بان ٩١٪ من المسيحيين مع الحوار. صحيح ان هذه النسبة  هي ترجمة لفكرة مسيحية ساذجة حول "الالتفاف والتكاتف والوحدة". وهي تزداد قوة وتبريرا حين ينظر المسيحيون الى محيط ينزف مسيحييه تباعاً في العراق كما في سوريا . لكنها في جانب منها نسبة تعكس إقراراً من الناس بان الخلاف هو خلاف شخصي وصراع سلطة ولا يستأهل الاستمرار فيه في هذا الظرف الوجودي!!! ولان الشيء بالشيء يذكر، لم يكن  بغير دلالة ايضاً ان حوار المستقبل حزب الله يصطدم، على عكس الحوار المسيحي، بمساحة ممانعة قاسية عند القاعدتين. تكفي مراجعة المطولات التي كتبت عن شكوك عميقة يبديها الرئيس فؤاد السنيورة حول الحوار وجدواه كما تلك التي كتبت حول مواقف صقرية داخل تيار المستقبل، هي جزء من واقع النسيج السياسي والاجتماعي الذي يمثله الرئيس سعد الحريري. من هنا كانت السقوف المنخفضة للحوار السني الشيعي في مقابل فولكلوريات "طَي صفحة العداء" و "حان الوقت ان يرتاح المسيحيون" وغيرها من العبارات التي سقطت من فوق على المسيحيين الذين كان يقال لهم حتى الامس القريب ان فلاناً من الحارة الفوقا وفلان من الحارة التحتا في إشارة الى استحالة اللقاء مع عون "المجرب" كما قال لي صديق في منزلي، هو اليوم من المحاورين، معترضا على زيارتي الى عون ومحتجاً على جنون المستقبل بمحاروته! 

فالخلاف السني الشيعي في لبنان، وحتى إشعار آخر، هو جزء من صراع ايديولوجي وسياسي واستراتيجي كبير في لبنان والمنطقة، في حين ان الصراع المسيحي المسيحي، صراع في الامس ومصالحة اليوم، أخذ لنفسه طابع الصراع على السلطة او الاتفاق على اقتسامها ببعد "كانتوني" دفين. ولعل هذا الصراع نفسه هو ما يَصُب مياها كثيرة في طاحونة التقارب المسيحي المسيحي ببعده الكانتوني. 

بهذا المعنى فان حوار عون-جعجع هو عودة مسيحية الى الجذور، ومحاولة، لا يمكن التكهن بنتائجها، لتأسيس القبيلة المسيحية الكبيرة في مواجهة قبائل المسلمين بوصفها المستقبل الوحيد للمنطقة، مع ما يعتري هذا التوقع من مخاوف وافترضات درامية، عاجزة عن رؤية واقع المنطقة وواقع حراكها الاجتماعي والسياسي الا من خلال داعش! 

هل انتبه احد من المسيحيين المتحاورين ان جريدة المستقبل وضعت على صدر صفحتها الرئيسية عنوان "Je suis Charlie"!? 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024