"الباسيلية": سياسةُ صفرِ صراعات وملايين الخصوم

منير الربيع

الأربعاء 2019/02/06

"ميزان الذهب". هي العبارة التي يمكن بها اختصار شخصية جبران باسيل. لا يتمتّع الرجل بكاريزما. لكن، بلا شكّ أنه حيوي، على معنى أوسع من النشاط والهمّة. لا يتعب. صاحب أفكار لا تنضب.

لا أنكر أنني لا أتوافق مع باسيل، بأي من طروحاته. مع ذلك، لا بدّ من الاعتراف له، بتأسيس حالة سياسية يصعب جداً استيعابها. المحبون يتلقفونها بإيجابية مطلقة، والمبغضون (أو المعارضون) يواجهونها بسطحية رد الفعل، السريع الرفض، أو بنكران تلقائي. يتوقعون باستمرار بأنه سيفشل أو سيصطدم بتركيبة البلد، أو بتوزانات لا يمكن ضربها. لكن الحقيقة مختلفة. باسيل يكرّس توازنات جديدة. وإذا ما اصطدم بشيء، تظهر قدرته على اختراقه، أو على فتح ثغرة فيه.

ما بعد العونية
على مدى سنوات عشر، كانت النظرة إلى باسيل أقرب إلى الاستخفاف، أو من دون اهتمام جدّي. كثر كانوا يعتبرون أن الرجل سيقع، أو لن تقوم له قائمة بعد كل تصريح يطلقه. وما يحدث هو العكس، يثبت أنه أقوى. ينهض، وينطلق، ويجرّ كثيرين خلفه. ولطالما كان الرهان، على أن باسيل لن يتمتّع بمستقبل زاه، لكنه يثبت العكس مراراً وتكراراً.

حان الوقت للإقرار بالحالة الباسيلية. وهي تكرّست، وستتخطى الحالة العونية، التي اجتاحت قلوب المسيحيين. وبالتالي ستسقط رهانات المراهنين على انتهاء حالة باسيل، أو استنفاد قوته و تبدد تأثيره، بانتهاء عهد الرئيس ميشال عون. باسيل يستعد لفتح عهد جديد، ولإطلاق حالة جديدة، هي الباسيلية.

تلك "الباسيلية" يدوزن وزير الخارجية مواقفها، بميزان صائغ الذهب. تماماً كموقفه الأخير، الذي أطلقه في إحدى المحاضرات، بالعاصمة الفرنسية، باريس. إذ قال إنّه "من صالحنا إعادة العلاقات مع سوريا، التي لا تزال تحتفظ بمقعدها في الأمم المتحدة، حتى لو كنّا قد خضنا معارك سابقة معها، لأنّها الجار الوحيد للبنان". وعن إمكانية عودة النفوذ السوري إلى لبنان، بعد إعادة العلاقات، اعتبر أنّ "الأمر يقع على عاتق اللبنانيين في السماح به أو في مواجهته"، مؤكّداً أنّ "براغماتيتنا وإصرارنا، يساعداننا لنبقى محصنين".

جمع التناقضات
ووصف باسيل الاتفاق النووي الإيراني بأنّه "كان فرصة عظيمة. والتقليل من أهميته، هو خطوة تراجعية في المنطقة. لكن ذلك لا يعني أنّنا ننوي معاداة خصوم إيران. وحين نقول إنّ للدول العربية حق في حماية أمنها ورفض التدخل الخارجي، لا يعني ذلك أنّنا ضدّ إيران. وحين ندعو إلى سوريا موحدة وعلمانية ومتسامحة، لا يعني ذلك أنّنا نبرىء الحكومة السورية الحالية في وجه المعارضة. بالنسبة لنا، الشعب السوري وحده  له الحق في تقرير مستقبله وهوية قادته". وتابع: "حين نقول إن أحد أكبر المعوقات في طريق الوصول إلى سلام عادل في الشرق الأوسط، بين العرب وإسرائيل، هو انحياز أميركا الكامل، لا نكون بذلك نعلن العداء للولايات المتحدة الأميركية. بل نعبر عن استنكارنا كيف أنّ دولة عظمى، نحترمها ويفترض بها أن تحرص على تطبيق القانون الدولي، وتنسيق السلام، تهمل واجبها تجاه السلام العادل".

لا أحد يوازي باسيل في استسهال الجمع بين هذه التناقضات. هو القادر على جمعها في بوتقة واحدة، مستنداً على التناقضات الطبيعية الملازمة للطبيعة الإنسانية أو السياسية. وهو الوحيد الذي يعلن الاستعداد للتماهي مع كلّيتها. فيبدو وكأنه هو حاجة للنظام السوري، كما هو حاجة للمجتمع الدولي.. وإن اقتضى الأمر، حاجة للسلام العربي الإسرائيلي. لا يخاصم العرب، ولا يواجه إيران. يحظى بالدعم الإيراني، ويسعى خلف المكاسب العربية. لكلّ مقام مقال، ولكل حساب دفتر وقلم. يعلم باسيل جيداً كيفية مسايرة القوى المتناقضة.

تفجير القنابل 
أهمّ ما في باسيل، هو إلهاء خصومه بتفاصيل يومية دقيقة مملة. يجيد الغوص فيها وفي متفرعاتها، كمن ينصب الكمائن في الدهاليز، التي يجيد الركض في أزقتها ومتاهاتها، بينما الآخرون يتوهون خلفه، ينتظرون إلهاماً لابتكار الردّ، أوالاكتفاء برد الفعل حين "يفعل". وفي الوقت الذي يغرق الخصوم في تفاصيل لبنانية دقيقة، يكون باسيل قد فجّر قنبلة إقليمية دولية، أو استراتيجية، كـ"انتفاء العداء الأيديولوجي مع إسرائيل"، أو كـ"الحديث عن السلام العادل"، و"الانفتاح على سوريا، وعلى دول الخليج معاً". في حين يبقى الآخرون حائرين، لا يجدون مكاناً يركنون إليه. وغالباً، ما يتحولون إلى ضحايا صراعات المحاور أو مصالحاتها. وحده باسيل يبتكر الظرف والحاجة إليه في خضمّ الصراعات، فينتهي الأمر به حصاناً رابحاً في فترات المصالحات. باسيل الذي يريد كل الوزارات، يريد كل القوى الإقليمية أيضاً.

يخاطب الغرب بلغة مواجهة الإرهاب والسلام العادل، ويخاطب العرب بالحفاظ على العروبة والنهوض بمشروع عربي، يحتضن النظام السوري في لحظة عزلته، يبحث عن إيران في كل ظرف وزمان، وينتشي بالنموذج الأميركي. كثر هم الذين نظروا إلى باسيل بازدراء. اعتبروا أنه سيقع في شرّ أعماله. لكنه كان أبرز من يجيد الخروج من الشرانق، ونصب الأشراك وإنزال الشرور. أوقع خصومه في حيرة. استقطب أعداء، واستعدى حلفاء. كلها كان يحيكها بمسلّة خيّاط ماهر، لا يهمل أي تفصيل، من أول قطبة، إلى الصورة النهائية للثوب.

المبادرة 
صحيح أن القوة العونية مؤخراً ارتكزت على التحالف مع حزب الله، والتي يصفها بعض الخصوم، بأنها قوة متنامية بفعل سلاح الحزب ومرتكزة عليه. ويعتبر هؤلاء أن قوّة العهد من قوة السلاح. لكن الحقيقة أصبحت في مكان مختلف. باسيل أصبح حاجة ضرورية للسلاح، لحمايته ولاستمرارية دوره. هو الحاجة الملحّة لحزب الله، والملجأ الوحيد والأخير للرئيس سعد الحريري. هي نفسها الموازنة بين التناقضات الإقليمية والدولية. مواجهة باسيل مهمّة صعبة على خصومه، خصوصاً الذين يعتبرونه غير مثقّف أو عنصري، أو شعبوي، لكنه يقلب هذه الصفات ويحوّلها إلى نقاط قوة في سجّله. يستقطب من خلالها المزيد من المؤيدين أو المعجبين، أو حتّى الحاقدين على تركيبة مزمنة، محصورة بنوادٍ سياسية وبيوتات مقفلة.

أهم ما أرساه باسيل، هو صنع المبادرة. الإسراع في ابتكارها. هذا من أصل السياسة وفصلها. لذا، اختزل كل الطروحات السياسية أو حتى المطلبية والمعيشية. لم يترك لغيره من الخصوم أي عنوان للدخول بواسطته إلى قلوب الناس. من "الاتصالات" إلى الماء والكهرباء، وحالياً ملف النفط، والعمل والديمغرافيا، ربطاً بمشاريع مقترحة من قبله، حول سكك الحديد وفتح الأسواق العربية على بعضها البعض. كلها عناوين، أجاد باسيل استنباطها، بفعل حيويته، حركيته، شقائه الذي لا يتعب. لم يترك أبواباً مفتوحة أمام خصومه. ومن يفكّر في طرح البديل، يجد نفسه يكرر فكرة قالها الرجل، بمعزل عن عدم تطبيقها. ويكون باسيل حينها قادراً على القول إنها كانت فكرته في الأساس، أو أنها اقتراح قانون مقدّم من تكتّله. ميزة باسيل، أنه لم يتكاسل، بعكس الآخرين، الذي ناموا على فراش حريرية. تحوّل باسيل إلى داء، محفّز على الابتكار. ومن يريد مواجهته عليه الذهاب بعيداً، عميقاً في استعادة الناس، إن لم يكن بأفكار ومشاريع جديدة، فبالخروج من اللسانيات القديمة، والعودة إلى الجوهري والحقيقي، قولاً واعتقاداً وممارسة. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024