بوسطة عين الرمانة وما تلاها.. بين الفلسطينيين والمسيحيين(2)

محمد أبي سمرا

الثلاثاء 2021/04/13
تروي هذه الشهادة، وهي لشخص مسيحي ولد سنة 1964، ما حدث في حارة حريك بعد مجزرة بوسطة عين الرمانة في 13 نيسان 1975.
ونشرت "المدن" أمس حلقة أولى عن زمن تلك "البوسطة" وما سبقها. وسبقتها حلقات ثلاث من شهادة الراوي نفسه.
وهنا حلقة ثانية، شهادة عن حارة حريك في حرب السنتين (1975 – 1976).

قبور للغرباء في ديار الخائفين
..وتزايدت موجات النزوح السكاني المسيحي من حارة حريك في حرب السنتين وتوسعت، بعدما رسمت جولاتها الأولى خطَ التماس الحربي وثبّتته المنظمات والميليشيات المسلحة في بيروت وضواحيها التي انقسمت شطرين طائفيين، غربية وشرقية. ونزح كثيرون من أهالي الحارة، فأقاموا في بلدة الحدث القريبة، وانخرط شبانهم في حزبي الكتائب والوطنيين الأحرار. أما أسرتنا فعاشت جولات تلك الحرب وهدناتها متنقلة بين بيتنا في الحارة والبيت الذي استأجره والدي في بلدة عشقوت الكسروانية.

وفي حرب السنتين عرفتْ حارة حريك ظاهرة جديدة: استضافت مقبرتها قرب كنيستها دفن كثيرين من القتلى المسيحيين الغرباء، الذين لا يعرفهم بقايا سكانها وأهلها "الأصليين". كان أولئك القتلى مسيحيين غادروا بلداتهم وديارهم المسيحية في جبل لبنان، أو نزحوا منها خائفين، أو طاردتهم فيها وطردتهم منها الميليشيات المسيحية في بدايات الحرب وفي جولاتها المتلاحقة. فأقاموا وعاشوا مقاتلين متفرغين في أحزاب "الحركة الوطنية اللبنانية" و"قواتها المشتركة" إلى جانب ميليشيات المنظمات الفلسطينية، وسقطوا على جبهات القتال في بيروت الغربية وضواحيها وفي جبل لبنان، ولا أهل لهم في المناطق التي حاربوا وقتلوا فيها ليتعهدوا مراسم دفنهم.

وكان معظم القتلى الذين استضافتهم مقبرة حارة حريك من مسيحيي الحزبين الشيوعي والسوري القومي. وقتلوا كما دفنوا مهجّرين، لأن الميليشات المسيحية تسيطر على ديار أهلهم المسيحية. لذا راح مسيحيو حارة حريك -الخائفون و"الصامدون" في ديارهم التي تسيطر عليها أحزاب أولئك القتلى- يستقبلون مرة كل أسبوع أو أسبوعين قتيلًا مسيحيًا شيوعيًا أو سوريًا قوميًا مهجرًا من دياره ويستحيل دفنه فيها.

أما لغة حرب السنتين الأهلية وشعاراتها فكانت تقول إن أولئك المسيحيين المحازبين المهجرين، سقطوا في معركة "النضال الوطني"، "دفاعًا عن المقاومة الفلسطينية وعروبة لبنان وديموقراطيته ووحدته"، ضد من "يطعن المقاومين الفلسطينيين في الظهر"، و"لإحباط المؤامرة الانعزالية (المسيحية) الرجعية والصهيونية والإمبريالية لتقسيم لبنان".

ولم أدرِ آنذاك ولا أدري اليوم، ماذا كان يفكر أهالي حارة حريك المسيحيون ويشعرون، فيما هم يشيّعون أولئك القتلى إلى مثواهم الأخير في مقبرتهم القريبة من كنيستهم القديمة التي هجرتها مناسبات الفرح. وفتحت المقبرة والكنيسة أبوابهما لمآتم مستعجلة بائسة، موتاها شبانٌ مقاتلون "غرباء" لا يعرفهم أهل الحارة، بل يعرفون فقط أنهم مسيحيون قاتلوا وقتلوا في صفوف الميليشيات التي تخيفهم وتروعهم في بلدتهم المتأهبين للهجرة منها، والمتأهبة للأفول.

ولكن ليس من الصعب تخيّل مقدار القسوة والوحشة اللتين شعر بهما بقايا أهالي الحارة، فيما هم يشيّعون أولئك الغرباء إلى المقبرة. وكذلك القسوة والوحشة اللتين كابدهما أهل أولئك القتلى، فيما هم يتلقون أخبار مقتل أبنائهم الفارين من ديارهم، ودفنهم في مقبرة غريبة، بعد قتالهم وإطلاقهم نيران أسلحتهم على مناطق أهلهم، ديار الأعداء "الانعزاليين". وكان على أهلهم هناك في ديارهم، أن يكتموا أخبار مقتل أبنائهم حتى عن جيرانهم، وعدم إظهار حزنهم وحدادهم عليهم، لأن إظهارهما يعني أنهم يتعاطفون مع الأعداء. وقد يعرضهم هذا للطرد من ديارهم إلى ديار الأعداء.

ومثلما كانت مقبرة حارة حريك مثوى أخيراً لأولئك الغرباء، كانت أيضًا محطة للراغبين في الهجرة من سكان المناطق المسيحية إلى خارج لبنان. ومنهم أهل أولئك اليساريين المسيحيين، غرباء المقبرة والقبور، الذين يزور أهلهم قبورهم فيما هم يتهيأون للهجرة. فحينما كان مطار بيروت الدولي يُقفل في أوقات من حرب السنتين، كان الراغبون في الهجرة يأتون من مناطقهم المسيحية إلى الحارة، فيمكثون فيها بعض الوقت لانجاز معاملات هجرتهم، منتظرين أن يفتح المطار القريب ويُتاح منه السفر والهجرة إلى خارج لبنان. وما تزال أطياف وجوه كثيرة من أولئك العابرين في ديارنا حاضرة في ذاكرتي حتى اليوم.

نزوح أخير وانتحار
انتهت حرب السنتين بدخول القوات السورية إلى بيروت في خريف 1976، فأخذ ضباط سوريون أقاموا حواجزهم العسكرية ومراكزهم الأمنية في بلدتنا، يزورون بقايا سكانها المسيحيين في بيوتهم، لـ"طمأنتهم" وحضِّهم على "البقاء في ديارهم". أتذكر واحداً من أولئك الضباط جالسًا في صالون بيتنا، ويتحدث إلى والدي الذي كان صامتاً شارد الذهن تقريبًا. ومما قاله الضابط ذاك: نحن وإياكم قلب واحد. ورئيسكم المنتخب الياس سركيس سيوقع معاهدة دفاع مشترك مع الرئيس حافظ الاسد. وغداً سيشترك ابنك (أي أنا)، في دورات تدريبية معنا.

واشتد لون الحياة الرمادي في تلك السنوات بين أعوام 1976 و1980، على الرغم من بقاء بعض رفاقي في الحي وفي مدرسة سيدة الملائكة في بدارو، فيوصلنا والدي معًا إليها صباحًا في سيارته، ويعيدنا منها إلى الحي في عصاري النهارات. وكان لي في المدرسة رفاق يقيمون في شارع سامي الصلح ورأس النبع، فنتبادل الزيارات البيتية. وفي أعياد ميلادنا كان المحتفى به يقيم له أهله حفلة "بارتي" بيتية، يُدعى إليها تلامذة وتلميذات الصف. وكنت أشعر أن أهلنا يوهموننا ويوهمون أنفسهم بأن الحياة ليست رمادية، ولا زالت على سابق عهدها.

وفجأة وصل والدي مرة إلى مدرستي في بدارو، قبل موعد انصرافنا المعتاد منها، ومصطحباً في سيارته جارنا الدركي المسلم المقيم في البناية التي بها بيتنا. وكان قلقاً خائفاً، وقال إنه أتى لاصطحابي وأختي من المدرسة، خشية منه علينا من موجة خطف اجتاحت بعض المناطق القريبة من خطوط التماس التي اندلعت عليها اشتباكات مفاجئة. ومن بدارو إلى حارة حريك في السيارة، أخذ جارنا الدركي يدل والدي إلى الطرق الداخلية والفرعية التي عليه أن يسلكها، ليتلافى الرئيسية التي قد تكون أُقيمت عليها حواجز للخطف الطائفي. وقرب معمل لافروتا في الشياح، رأيت من نافذة السيارة واحداً من المشاهد التي لا أنساها: رجال وشبان معصوبو العيون، أيديهم خلف ظهورهم، مصطفون ووجوههم إلى جدار أمامهم، وخلفهم جمع من المسلحين الغاضبين الموتورين. لا أدري لماذا تخيلتني في مكان أحد أولئك الشبان المصطفين أمام الجدار، والموشكين في استسلام على مغادرة الحياة والعالم، عالمنا الذي لا تفصله عن صخب الحياة ودبيبها وفوضاها ورعبها فيه، أكثر من بضعة أمتار.

ولم نعد نطيق الحياة في حارة حريك. حتى جيراننا المسلمون أخذوا ينصحوننا صراحة بأن نغادر: إذا حصل شيء سينكِّلون بكم، أخذ بعضهم يقول لنا، لحملنا على المغادرة. ولأن والدي كان يحدس، ربما، ما يخبئه لنا القدر في حال مغادرتنا نهائيًا بيتنا وبلدتنا، كان يقول لناصحيه: ولو! نحن أخوة، ونحن في حمايتكم. ولمّا قال مرة جارنا الشيعي الأقرب لوالدي: العين بصيرة واليد قصيرة، يا جار، ونحن مثلكم لا نستطيع أن نفعل شيئاً؛ قرر والدي الرحيل للإقامة نهائياً في بيتنا الصيفي في عشقوت الكسروانية.

لكننا لم نغادر وحدنا، بل في موكب من عشرين سيارة من بقايا عائلات حارة حريك المسيحية. كان الجميع موقنين أن خروجنا هذا هو الأخير الذي لا عودة لنا بعده إلى حارة حريك.

شقيق الرجل البسطاوي الذي يسكن في الحارة قريباً من بيتنا، ويعمل محاسباً في مجلة "الحوادث"، كان في تنظيم "المرابطون" العسكري، ومن عناصر الحاجز المشترك مع المسلحين الفلسطينيين، في محلة الطيونة، حيث كان علينا أن نعبر خط التماس متجهين إلى المناطق المسيحية. أمر مسؤول الحاجز سائقي السيارات العشرين بالنزول من سياراتهم واللحاق به إلى مقره، فمشوا خلفه صامتين واجمين. بعض النساء والأولاد في السيارات، اجتاحتهم نوبة من البكاء، فجلب لهم شقيق الرجل البسطاوي أكواباً من الشاي.
وحين عاد والدي إلى سيارتنا مطأطئ الرأس صامتاً، رأينا دموعاً حبيسة في عينه، ثم بكى فيما هو يروي لنا ماذا جرى في المكتب. قال إن عناصر الحاجز أخذوا يؤنبون الرجال المزمعين على المغادرة، قائلين لهم: أنتم تتركون دياركم وبيوتكم بملء إرادتكم، وغدًا يُقال وتقولون إننا نحن من يهجر أهالي حارة حريك المسيحيين ونطردهم ونحتل بيوتهم. لذا لن نسمح لكم بالمغادرة، إلا إذا وقّع كل منكم مستنداً يفيد أنه غادر من تلقاء نفسه وبإرادته ورغبته الكاملتين، من غير ضغوط ولا إكراه. وقال والدي إنه وقع المستند، كمن يوقع قرار إعدامه، لكن بلا اكتراث.

ووصلنا إلى عشقوت حاملين بعض الثياب والكتب وكل ما لدينا من صور فوتوغرافية. وبعد مدة قصيرة علمنا أن منزلنا في حارة حريك احتلته عائلة شيعية من الجنوب.

ولم يشأ أبي وأمي أن نتابع تعلمنا، أختي وأنا، في مدرسة جديدة بعشقوت أو قريبة منها، حرصًا منهما على عدم أشعارنا بانخلاعنا النفسي من بيئتنا التربوية والاجتماعية. وظل والدي يستيقظ ويوقظنا في الخامسة فجرًا، ليوصلنا بسيارته إلى مدرستنا سيدة الملائكة في بدارو، ويذهب إلى عمله في شركة رسامني لبيع السيارات في الشياح، جنوب عين الرمانة.

لكن جو مدرستنا في بدارو سرعان ما بدأ يتغير: غاب عنها زملائي القدامى، وانتهى الاختلاط الطائفي السابق بين تلامذتها، فصاروا في غالبيتهم الساحقة مسيحيين، من فرن الشباك وعين الرمانة وبدارو، فلم يبق في صفي سوى تلميذ واحد من قدامى رفاقي المسلمين. كان منزل أهله في محلة الطيونة. لكنه سرعان ما تغيب عن المدرسة، وهاجر مع أهله إلى السعودية. وبعد سنة دراسية، عاد إلى مدرستنا، لكنه بدا شخصًا آخر غير الذي كانه من قبل. وربما غيرته إقامته في السعودية، فصار منطوياً على نفسه، وأطلق لحيته عن تديّن جديد غامض لا عهد لنا به نحن التلامذة. وقد يكون هذا ما حمل الخوري في مدرستنا على أن يقول له مرة إنه راغب في تعميده في الكنيسة. فجاوبه ذاك التلميذ قائلاً: شو بدك ياني احترق بالنار؟! وبعد مدة قصيرة انقطع عن الحضور إلى مدرستنا، وقيل إنه انتقل إلى مدرسة أخرى. وفي مطلع العام الدراسي التالي، سألت تلميذًا مسلمًا في المدرسة عن رفيقنا القديم وأحواله، فصمت ثم قال فجأة: انتحر.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024