"الميلاد" في عهد التعاسة

يوسف بزي

الخميس 2020/12/24

قبل سنتين فقط، كان هناك بيروت. وفي شتائها الأخاذ غاسل الأبنية والهواء، منعش الأنفاس، ململماً البيوت على سجادها، والأجساد على كنزاتها الصوفية ومعاطفها، كان يأتي موسم "الميلاد". ولا يكون في بيروت "عيداً دينياً" حصراً.

شرفات الحيّ، نوافذ البيوت وواجهاتها الزجاجية، الأسواق والساحات، داخل الدكاكين والمتاجر، أمامها أيضاً، تتكاثف الزينة وأضواؤها.. أسبوعان تقريباً من نور واحتفال يجدد أنس العائلات وموداتها. عيد يُخرج الناس إلى مباهج لقاءات وسهرات وسخاء موائد، ولطف تبادل الهدايا وحميميتها.

والأطفال.. هذا ميعادهم الخاص. أسياد الموسم وصورته. والعالم لهم في هذا الزمن الوجيز من السنة. فالعيد أصلاً لذاك الطفل الأول في العام صفر.

قبل سنتين وحسب، كانت بيروت الميلاد تستأنف تقاليدها الساحرة، بقليل من البحبوحة، بكثير من الرغبة واتقان فن اللحظات السعيدة وابتكارها. فيكون "الميلاد" ذريعة أيضاً لينغمس اللبنانيون بما اعتادوا عليه من نمط عيش متعوي، كل ومقدرته.

ليس الحال كذلك هذا العام ولا الذي سبقه. بيروت اليوم ممددة على سرير التعاسة. في "عهد" بلغ من القوة أن انفجر. انتفخ بأورامه وفقع متشظياً متقيّحاً بضغائنه وفساده روحاً ومادة. "ميلاد" يأتي إلى بلاد كما وصف حالها البابا فرنسيس، اليوم: تختنق فيها روح الإقدام والحيوية، وشبابها انتُزع منهم كل رجاء بمستقبل أفضل.

وإن كان العالم كله كئيباً في عزلات الوباء، شاحباً متألماً، فإن مصائب لبنان أحالته أرض وحشة وإدقاع. أرض حيث يخجل واحدنا أن "يحتفل"، أن يُظهر فرحاً ولو طفيفاً. كأن العيد استفزاز للمشاعر.. مسّ غليظ للجروح. بذخٌ أشبه بالبطر بين ناس أذلهم عهد الإفلاس والضيق والحِداد اليومي.

قبل سنتين فقط، كانت الشكوى حاضرة، لكن وهم "الغد الأفضل" كان حاضراً أيضاً. جاء الغضب والتمرد في ذاك الخريف مقروناً بوعود الخلاص العمومي.. وحلت بعده بسرعة قياسية اللاجدوى، استعصاء النجاة من الكارثة.. ولا ميلاد بعدها.

هنا في الأحياء والشوارع "ميلاد" فقير، رثّ وخافت. ويمكننا أن نخمّن مزاج المنازل، حيث يمضي الزمن باهتاً، ممسوساً بالقلق واللايقين من الغد. بيوت قليلة الإضاءة والزينة.. كأنما "تتذكر" أطياف عيد بات صعباً حضوره.

لا جدوى من السؤال: من قتل الميلاد في "بلاد الأرز"؟ ولا جدوى أصلاً من أن نكتب عن هذا "الحزن الوطني"، عن بيروت التي كانت. فاللغة نفسها باتت منتهكة بمعانيها. فإذ نقرأ ما يقوله "رؤساؤنا" الكثيرون، "زعماؤنا" الموهوبون عن العيد والقيامة ولبنان وطن الرسالة والأمل... لا يسعنا إلا الذهول والغيظ والسخط.

لقد سرقوا "الميلاد" أيضاً. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024